الاثنين، 4 فبراير 2008

رواية العزبة



رواية : العزبة

تأليف : دكتور / محمد محـفوظ


( .. شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ..

سورة الأنعام ــ الآية ١١٢ 



لم يدفعني إلى هذا العالم اللامرئي ، إلا حبي للقراءة .

ولطالما راوغت رغبتي الجامحة في قراءة هذا النوع من الكتب ، والتي كانت تطالعني دائماً على أرفف المكتبات ، وعند بائعي الصحف على الأرصفة .


والمدهش .. أن هذه الكتب كانت منتشرة بأعداد ضخمة وأسعار معقولة . وكان هذا يدفعني دائماً للتعجب . فكيف تتم مصادرة كتابات بعض المفكرين بواسطة بعض المؤسسات الدينية ؟ بينما تُترك هذه الكتب التي يختلط فيها اليقين بالخرافة ، والحقيقة بالخيال ، والدين بالدجل والشعوذة .


وكنت دائماً أهتم بقراءة عناوين هذه الكتب . وأتأمل الرسومات على أغلفتها ، بألوانها الفاقعة الصارخة ، وملامح رسوماتها الممسوخة ذات الأنياب والقرون والعيون الحمراء . وكنت كلما هممت بالتقاط أحد تلك الكتب لأتصفحه أو لأطلع على فهرسه ، يتملكني خوف غريزي وخجل عقلي سرعان ما يجعلاني أحيد عن تلك الرغبة . فكيف أسمح لنفسي وأنا أؤمن بثقافة العقل أن أنحدر إلى هذا الدرك من ثقافة الخرافة . وكيف أخاطر بالاتصال بعالم مجهول تماماً ، بينما أنا أعاني في وسط عالمنا هذا رغم علمي بالكثير عن تفاصيله ودقائقه . كيف أطمئن بالمجهول ، بينما يأكلني القلق في الظاهر المعلوم .


ولكن .. كما يقول المثل الدارج " الحذر لايمنع قدر " . ففي إحدى سفرياتي للقاهرة لقضاء أمر شخصي . أدى الروتين الحكومي إلى اضطراري للإقامة بإحدى اللوكاندات حتى اليوم التالي . وفي حجرتي باللوكاندة أثناء وضع حقيبتي بالدولاب ، وجدته أمامي .. فيبدو بأن النزيل السابق بالغرفة كان قد تركه سهواً . كان كتاباً من الحجم المتوسط ، تنطبق عليه كافة مواصفات تلك الكتب من الألوان الصارخة على الغلاف ، والملامح الشيطانية . وكان عنوانه من كلمة واحدة .... " الجن " .

* * * *

ما اجتمعت أنا وكتاب في مكان ، إلا وكانت ثالثتنا القراءة . ولقد كان الجو مهيأ لذلك تماماً . فوحدتي في الغرفة ، وطول ليل الشتاء ، وإدماني للقراءة ، دفعتني جميعاً إلى التخلي عن حذري وخوفي وخجلي . ولم أنم إلا وكنت قد انتهيت من قراءته .

* * * *

أضفت إلى مكتبتي رفاً جديداً . فبالإضافة إلى رف لمؤلفات النقد الأدبي ، ورف للروايات والقصص والأشعار ، ورف للمؤلفات السياسية ، وآخر للكتابات الفكرية ، وآخر لمؤلفات الاتصال والإعلام . فقد أفردت رفاً جديداً لكتب " عالم الجن "

. ولطالما كنت أشعر بالخجل الشديد وأنا أخرج من إحدى المكتبات وفي يدي كتاب عن " عصر المعلومات " وكتاب آخر عن " الجن " . ولكن إدماني للقراءة كان ينتصر دائماً على إحساسي بالخزي والخجل . 

ولو أن ذلك لم يمنعني من الالتزام بقيد صارم آليت على نفسى عدم التفريط فيه . حيث قررت منذ الكتاب الأول ألا أنزلق إلى ساحة التجريب ، أو وفقاً لمصطلحات تلك الكتب " التحضير " . فلقد قرأت كثيراً عن تحضير الجن واستدعائه واستخدامه ، أو إخراجه من جسد الممسوس والمربوط والمسكون . ورغم شغفي بالقراءة إلا أنني لم أجد داخلي أى رغبة في تجاوز القراءة إلى التجربة . فلقد كان عقلي يأبى أن ينزلق إلى أبعد من ذلك . وكنت أنا نفسي أرفض أن أستبدل إيماني بالعلم بشغفي بالخرافة .

* * * *

لا أستطيع أن أحدد بدقة متى بدأت أشعر بتلك الأشياء . ولا شك أنها بدأت مبكراً ، ولكنني كنت في البداية لا أوليها اهتمامي ، وتتغلب مشاغلي وأفكاري عليها . ولكن بمرور الوقت بدأت أشعر بأنني مراقب . فأينما جلست أو سرت داخل المنزل كنت أشعر كأن أحداً يتبعني أو أن عيوناً متلصصة ترقبني وتترصد خطواتي ، 

ثم بدأت الأمور تتطور . فلقد كنت أشعر ليلاً أثناء النوم أن ثمة يداً تتحسسني . وفي البداية كنت أعتقد بأنني أحلم . ولكن تكرار الأمر وتطوره إلى درجة استيقاظى لأجد نفسي عارياً ، جعلني أدرك بأن هناك شيئاً غير عادي يحدث لي . 


ولقد دهمني اعتقاد جازم بأنني جننت ، ولكن إشفاقي على نفسي جعلني أفسر الأمر بطريقة سيكولوجية ، دفعتني إلى الاقتناع بأنني أصبت بانفصام في الشخصية أو بداء السير أثناء النوم . ولقد سيطر عليّ هذا التفسير السيكولوجي إلى حد شروعي في البحث عن طبيب نفسي لأعرض عليه حالتي .


ولكنها .. لم تجعلني أسير في هذا الطريق إلى النهاية ، فلقد ظهرت لي .

* * * *

ــ أنا .... نورجان ..

هكذا قالت لي في أول لحظة لظهورها . ووقتها أدركت بأنني جننت تماماً ، وأن انفصام الشخصية والسير أثناء النوم أمنيات غالية بالقياس بما أنا فيه . ولقد سمرني الرعب في فراشي ، وسَرَت رعشة بجسدي كله ، وعرفت وقتها معنى أن يقف شعر الرأس .

ــ أنا .... نورجان ..

هكذا قالت مرة ثانية ، إلا أنني كنت قد بدأت أشعر بدوار شديد ، وأيقنت بأنني في طريقى لأن أفقد الوعي .

* * * *

تكررت مرات ظهورها . وبعد معاناة بدأ الأمر يصبح مألوفاً لي بعض الشىء . ولم أصدقها في البداية عندما صرحت لي بأنها من الجن ، لأنني كنت قد سلمت تماماً بفكرة سقوطي في بئر الجنون .

ولكن بمرور الوقت لاحظت بأن تعاملاتي مع أسرتي ومع الآخرين لم يطرأ عليها أي اختلاف ، بالإضافه إلى أن مستوى أدائي في العمل لم يتعرض لأي اهتزاز أو اضطراب . ولذلك بدأت أتعامل مع الأمر على أنه ظاهرة خارقة ، قد يصعب على العقل فهمها ، ولكن يمكنه التعامل معها .


ولعل الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي .. أنها جميلة ، بل فاتنة ، ولو أنني أدركت بعد ذلك أنها متوسطة الجمال بمقاييس عالمها . إلا أنها بمقاييسنا رائعة الجمال .

ولقد أيقنت عند رؤيتي لها بأن معظم الكتب التي قرأتها عن أبناء جنسها لاتستحق إلا الحرق . وأنها لاتحوي إلا أكاذيب وخزعبلات . لأن الحقيقة الأساسية التي لا يمكن إغفالها ، هي أن لغاتنا وكافة رموزنا البشرية لا يمكنها أن تصف هذا الخلق المغاير . قد يمكن أن ننقل الانطباعات والمعاني ونختزلها إلى كلمات . لكن الأوصاف لا يمكن بأي حال أن نجد لها في لغاتنا أو رسوماتنا أية كلمات أو مرادفات أو ملامح أو ألوان . إنها أوصاف ليس لها شبيه في عالمنا المعروف ... عالم البشر .

* * * *

كان الجنس أحد المعالم الهامة في علاقتنا ، ولكنه لم يكن كل شيء فيها . فقد كان مجرد حضورنا معاً يمنح كلينا إحساساً مفعماً بالدفء والأمان .

هل هو الاختلاف التام فيما بيننا الذي يجعل عمر الدهشة بلا نهاية ؟ فيتجدد دائماً الشعور بالانبهار الذي يقضي على أي مشاعر بالملل .. لا أدري . 

ولكن الجنس أيضاً كان شيئاً مغايراً . لايمكنني الوصف ، فهو فعل يختلف تماماً عما يمارسه البشر . ولكنه كان يتمثل في إحساس جارف بالانغماس في لذة طاغية ، تمنح النشاط والحيوية أكثر مما تجلب الوهن والخمول . كأنها نوع من ممارسة الحياة بشكل أفضل ، بل هي أفضل الأشكال . 

ولذلك كانت فترات الصمت تطول بيننا ، أكثر كثيراً من فترات الاتصال . ولعلني أقول ( الاتصال ) ، لأنه كان تخاطباً من نوع غريب . فكل منا يتحدث لغته ولكن الآخر يفهمه ، كأن مترجما يجلس بيننا فيترجم لها لغتي ويترجم لغتها لي . 

ولكن رغم ندرة جلسات حديثنا ، إلا أنني كنت دائماً أحاول التقاط كل ما يمنحني المزيد من المعرفة عن عالمها وأحداثه وأحواله . 

ولقد فهمت منها بأن عالمهم لايوجد تحت الأرض كما يعتقد بعض البشر ، ولا على سطحها ، ولا أعلاها أو أسفلها ، أو حتى بجوارها أو بعيداً عنها على كوكب آخر . ولكنه عالم موازٍ ، يوجد في الزمان ولا يوجد في المكان . 

ولقد أثارت مسألة الفصل بين الزمان والمكان بيننا جدلاً سفسطائياً . فكل منا حقاً يفهم لغة الآخر . ولكنه لايفهم رموزها ولا خلفياتها الاجتماعية والفلسفية ، أو حتى قوانينها الطبيعية والوضعية . 

إلا أنه بمرور الوقت بدأ كلانا يدرك بأنه لاسبيل إلى فهم ما هو فوق الفهم ، وبدأنا نكتفي بروعة مواجهة الجديد واللامعقول .


ولكن يوماً بعد آخر ، بدأت أتوق إلى رؤية هذا العالم الذي أسمع عنه منها فقط ، ولا أراه إلا بعين خيالي . ولقد ترددت كثيراً قبل أن أصارحها برغبتي هذه ، وذلك لشكي في جواز حدوث ذلك أصلاً ، ولخوفي من تأثير ذلك حال حدوثه على بنيتي الإنسانية . ولكن رغبتي غلبت ترددي وصارحتها بذلك . فعبّرت عن ترددها بعض الشيء ، لخوفها من انكشاف أمر علاقتها بي وسط أبناء جنسها . ولكنني تعهدت لها بأنني سألتزم بكافة محاذيرها . لخوفي عليها أولاً ، ولرغبتي الصادقة في استمرار علاقتنا ثانياً .

* * * *

اختلقت رواية عن رحلة سفر ينبغي قيامي بها ، لأبرر غيابي لأسرتي . وتقدمت بطلب للحصول على إجازة من العمل . وكنت كلما اقترب الموعد الذي حددناه لانتقالي معها إلى هناك ، ينتابني إحساس بالهلع ، سرعان ما يجعلني أقرر ضرورة إلغائي لهذه المغامرة المجهولة التي أقامر فيها بحياتي . ولكنني كلما التقيت بنورجان أجدني أخجل من إظهار خوفي أمامها وأتجاهل تماماً ما عزمت عليه من قبل .


ولقد مرت الأيام سريعاً . ووجدتني وجهاً لوجه مع ذلك اليوم الموعود وأُسقِط في يدي ، فلم يعد هناك مفر ، ولم يبق لي إلا الظهور بمظهر المتماسك المقدام . وأخذت أبرر لنفسي بأن مواجهة المجهول لكشف غموضه وأسراره تستحق كثيراً من المغامرة والمقامرة . ومادامت قد انقطعت كل خيوط التراجع ، فليس أمامي إذن إلا الارتحال لاستكناه غيب ذلك الكائن في الزمان بلا مكان . الارتحال إلى ... عالم الجن .

* * * *

ما إن صافَحَت نفسي واقع هذا العالم المحجوب ، حتى أدركت مدى قصور الخيال الإنساني . ومحدودية العقل البشري في قدرته على الهروب من الواقع المحيط للتحليق في عالم الخيال . وانغماس فرشاة الرؤية الإنسانية في ألوان الأرض وترابها فلا تبتكر خطوطها إلا تكرارات ممسوخة من الأصل الخلاب .

ولقد مرت بمخيلتي أعظم منجزات السينما العالمية في مجال الخيال العلمي ، وأخلد الملاحم الأدبية الأسطورية . وحاولت مقارنتها بهذا العالم العجيب ، فكانت أشبه بخيال شاحب باهت تخترقه الأنظار ، وسط تكوين حقيقي صارخ الأوصاف والملامح ، حاد الجوانب والقسمات ، فاقع الألوان والظلال ، نابض بالقوة والروعة والجلال .

إن الأرض تجذبنا فلا نرى أبعد من تحت أقدامنا ، والواقع يحاصرنا كفقاعة صابون لانرى إلا صورتنا المنعكسة على جوانبها اللامعة ، بينما الكون من خارجها يموج باللامعقول واللاموصوف .

يمكنني نقل الانطباع ، يمكنني نقل المعني ، ولكنني أعجز عن الوصف ، فاللغة وعاء لما نعرفه ، وعاء يتفتت عند مواجهته لغير المعروف .


ولقد غمرني هذا العالم المحجوب بلا معقولية تفاصيله ودقائقه ، فوجدتني أغوص في إحساس دافق بالدهشة ، دهشة تختزل كل تفكير وتحوِّل العقل إلى كتلة هلامية تختزن الصور والمرئيات ، ولا تمتلك أية قدرة على الاستدلال والمقارنة والتحليل والاستنباط . 


كما اكتشفت أنني لم أعد أتذكر أى شيء عن عالمي ، فذاكرتي انمحت تماماً ، ولم أعد أدرك إلا أنني غريب عن هذا العالم الجديد ، ولكنني ابن لعالم قديم ومألوف أصبحت لا أتذكر عنه شيئاً .

ولقد سارَعَت نورجان بانتشالى من ذهولي ، بإفهامي بأن عقلي البشري لايمكنه أن يستوعب كل هذا الجديد وغير المألوف دفعة واحدة ، بدون أن يتخلص تماماً من كل القديم المعهود . ولن يطفو عالمي البشري على سطح ذاكرتي ثانية ، إلا بعد استيعابي لتفاصيل هذا العالم الجديد . ولكن بمجرد استردادي لذاكرتي البشرية ، فإنني سأنتقل مرة أخرى إلى عالمي البشري خلال وقت قصير .


ولقد أراحني هذا التفسير . فتأهبت لفتح أبواب ذاكرتي الفارغة على مصراعيها لتستوعب هذا الفيضان الهادر لعالم تدب في كافة أوصاله حياة مجهولة ، حياة لا أدري ــ حتى الآن ــ عن كنهها شيئاً .

* * * *


الأحوال


ما إن حللت بهذا البلد ، وجبت أقطاره ، إلا وقد أحطت بمجمل أحواله دون التفاصيل . فثمة جو ثقيل خانق يخيم على الأنحاء وينشر ذيوله في الزوايا والأركان . بينما يبدو الانكسار وتظهر المذلة كأحجار ثقيلة معلقة في أعناق الرائحين والغادين . ويقفز الذهول كمطرقة تضرب كل الوجوه فينطلق الشرود كحبل طويل من العيون يلف كل عابر وكل مقيم .

ولقد أحاطت الفوضى بكل شيء . فلا معنى للنظام أو الالتزام . فالأمور تسير وفقاً لقواعد عشوائية لا يحكمها إلا التسيب والإهمال .

ولقد أدركت بأن للفقر ملامح لا تخطئها النفس الذكية رغم اختلاف العوالم والأحوال . فلقد أقام الفقر دولته في هذه البقاع ، وسيطرت الفاقة والحاجة على النفوس ، حتى صار الكل يتقاتل من أجل النجاة من الموت جوعاً ...

ولكن وسط كل هذا الشقاء تتناثر هنا وهناك أبهة وفخفخة تصدم العقول ، وتتجاوز كل حدود الممكن والمتاح ، فكأن أصحابها زهزهت لهم الدنيا ، وهم لا يقنعون إلا بالمزيد والمزيد .


وعلمت من نورجان بأن هذا البلد يقع في وسط هذا العالم ، الذي تمتاز أطرافه الزمانية الشمالية والغربية وبعض الجنوبية والشرقية بالقوة والتقدم والرفاهية . بينما يسيطر التخلف والضعف والفقر على بلدان أزمان الوسط والجنوب والشرق .


ويبرر الشياطين تردى أحوال تلك البلدان لسابق استعمارها من دول الأطراف . بينما يقرر الصالحون بأن خيرات الله ونعمه ــ بتلك البلدان ــ لو تم توزيعها بالعدل لعاش الكل في بهجة ونعيم .


وسردت لي نورجان التاريخ المعاصر لهذا البلد ، الذي كان في السابق تحت حكم النظام الملكي . إلى أن تمكن مجموعة من الثائرين من تدبير تمرد أطاح بالملك ، وتحولت البلاد إلى الحكم الجمهوري . وأصبح قائد هذا التمرد بمرور الوقت بمثابة رمز محزن للثوري الطاهر الذي أفسدته السلطة . فانقلب على كافة رفاقه ومعاونيه ، ورفض تسليم الحكم للصالحين ، وركز كل السلطات بين يديه ، وزج بالبلاد في عدة حروب ومغامرات وعداوات ، أزهقت الأرواح ، والتهمت الأرزاق ، حتى صار الصالحون يطلقون عليه في أواخر أعوام حياته وبعد مماته " مستشار إبليس " .


وورث الحكم من بعده تلاميذه وعصبته ، فحولوا البلد إلى تركة ينهبون خيراتها ، ويوزعون على العباد شرورها . 


واستمرت الأحوال حتى تسلم مقاليد الأمور الحاكم الحالي ، والذي وإن اختلفت وسائله وطرقه ، فإن محصلة حكمه ما كانت إلا امتداداً لسلسال واحد تشعب بخفاء في كافة مؤسسات الحكم والسلطة ، وحين تنبه الصالحون ، كانت البلد بالكامل قد سقطت في قبضة الشياطين الذين تحلقوا حول المناصب حتى لاينفذ إليها أحدُُ غيرهم ، وإن سارت الأمور أحياناً على غير ما يشتهون ، ودانت الأمور لأحد الصالحين ، فسرعان ما كانوا يدبرون له المكائد والمؤامرات ، حتى يخرج من منصبه بفضيحة تظل تلاحقه إلى آخر الزمان .

وشرحت لي نورجان كيف توصلت بلدان الأطراف الزمانية المتقدمة إلى نظرية فريدة لنظام الحكم ، تتيح لكافة القوى المجتمعية إمكانية الوصول للسلطة ، من خلال أسلوب الانتقاء أو الاختيار أو الانتخاب الحر . ولكي يتم ذلك الانتخاب في إطار كامل من الحرية والاستقلالية ، توصلت تلك النظرية إلى ما يُسمى بدولة المؤسسات ، وتمثل تلك المؤسسات كافة الأفرع الرئيسية التي ينتظم منها بناء أية دولة ، فهناك المؤسسة الشعبية التشريعية ، ومؤسسة القضاء والعدل ، ومؤسة الحكم والإدارة ، وأخيراً مؤسسة الإعلام التي أفرزتها العقود الأخيرة نتيجة تقدم وسائل الاتصال . 


وتمارس كل من تلك المؤسسات دورها في الرقابة على المؤسسات الأخرى ، وهدفها النهائي هو تحقيق الرفاهية للشعب ، والذي بدونه ما كانت لتوجد الدولة . فأي قرار أو هدف لا يرعى مصلحة الشعب هو في مضمونه خيانة لآماله وتطلعاته ، ولا يسعى إلا لخدمة مصالح صانعيه . 


وبذلك أصبح الحكم في الدول المتقدمة حكماً مقيداً غير مطلق ، لايقتصر على فئة معينة أو طبقة معينة أو اتجاه سياسى معين . فهو حكم من يختاره الشعب ليحقق ما يريده الشعب بواسطة الشعب .


وقد استعارت بعض دول أزمان الوسط والجنوب والشرق هذا النظام الفريد . ولكنها طبقته كشكل أجوف بلا مضمون . 

فالانتخاب الحر تحول في تلك الدول إلى انتخاب موجه يتم من خلال التلاعب بإرادة الناخبين . 

والمؤسسات التي تراقب بعضها البعض تحولت إلى مؤسسات تتواطأ مع بعضها البعض لخدمة مصالح الفئة الحاكمة . 

وتوارت مصلحة الشعب وآماله أمام مصلحة رموز السلطة ورغباتهم ، حتى أصبح نظام الحكم في تلك الدول صورة معدلة من صور الحكم المطلق الذي يقتصر على فئة معينة ، ولا سبيل إلى انتقال الحكم منها إلى أية قوة مجتمعية أخرى بالوسائل السلمية . 


ولذلك بزغت بتلك البلدان جماعات الجائرين كتنظيمات سياسية مسلحة ، تدبر الاغتيالات السياسية وتمارس العنف بهدف الإطاحة بالسلطة .


.... اتهمتُ نورجان بعد كل ما سمعته منها بالتشاؤم . فالأوضاع في بلدها لا يمكن أن تكون بمثل هذا السوء وتلك البشاعة . ولا شك بأن ما لاحظته بنفسي من فاقة وفقر ، يرجع إلى أسباب وظروف متداخلة و متعددة ، وليس إلى مجرد فساد السلطة ، وصارحتها بأنني لن أقتنع إلا بما يؤكده لي تحليلي الذاتي وتجربتي الشخصية ، لأنني أعتز باستقلالي الفكري ولن أستسلم لمجرد تحليلها الخاص للأمور . 

والحق أنني قلت ذلك بلساني فقط ، لكي أظهر أمامها بمظهر المفكر الحر صاحب الرؤية . ولكنني بداخلي كنت مقتنعاً بصحة كل ما قالته رغم أنني لم أعاينه بنفسى . فثمة شعور دفين كان يطفو بين الحين والآخر إلى سطح عقلي ، ليؤكد لي بأنني عشت يوماً ما هذه الظروف والأحوال من قبل ، وإنني كنت أردد يوماً ما نفس تلك الأراء والأفكار ، ولكنني لا أتذكر متى كان ذلك ، ولا أين ؟ فلقد أصبحت غريباً في عالم جديد ، أعرف ــ كلما مر الوقت ــ عنه شيئاً ، بينما عالمي القديم الذي جئت منه ، أصبحت لا أذكر منه شيئاً .

* * * *



الحاكم


ما يتردد عن سيرته الذاتية والعملية ، وعن قدراته الذهنية والجسدية ، وكفاءته القيادية والإدارية ، وعلاقاته الأسرية والشعبية ، كلها محض أكاذيب ، تروجها كتائب الإعلام التابعة لجهاز الحكم ، والتي تستخدم أحط الأساليب الشيطانية للوصول إلى مآربها ، وتقوم سياستها القذرة في بناء السيرة الذاتية للحاكم على جمع حقائق صغيرة جداً وخلطها بأكاذيب كبيرة جداً ، بحيث تصبح الحقائق الصغيره دليلاً على صدق الأكاذيب الكبيرة . وباستخدام أساليب التكرار والتذكير والمطاردة والملاحقة اليومية للعقول ، واصطناع المواقف والقصص وردود الأفعال ، تتحقق بمرور الوقت السيادة للسيرة المصطنعة ، بينما تتوارى في الخفاء السيرة الحقيقية .

ولكن لأن المعرفة قوة . ولأن المعلومة الخطيرة تضفي على ناقلها مهابة وجلالاً . فإن صانعى الأكاذيب أنفسهم هم مسربو الحقائق . ولئن تم ذلك في أضيق نطاق ، داخل حجرات النوم على صدور المومسات والغواني ، أو على ظهور الشواذ والمراقيع . إلا أن ذلك يتيح دائماً للحقيقة أن تظل على قيد الحياة ، ولكن لا يكتب لها الانتشار إلا بعد رحيل الحاكم وزوال عصره وسلطانه .

ولقد علمت من نورجان بأن أصوله المتواضعة والتي تصورها دائما كتائب إعلامه باعتبارها مدعاة للفخر والزهو ، كرمز للكفاح والعزيمة والقدرة على ارتقاء سلم المجد من القاع حتى قمة السلطة ، تلك الأصول تمثل أحد نقاط الضعف الخطيرة في سيرته الذاتية . 

فلقد كان والده مرتشياً يتاجر بحقوق العباد التي بين يديه بحكم عمله كموظف صغير في جهاز تابع للدولة . وتمكن بفضل خدماته غير الشرعية لبعض المقربين والمنتفعين في زمن المَلَكية ، من أن يضع ابنه على أول الطريق الذي يتيح له الانتقال لطبقة أخرى . 

كما استثمر أيضاً صلاحياته هذه في زمن الجمهورية لتدعيم مستقبل ولده ، حتى تمكن من إسناد أول منصب قيادي له في مجال عمله . 

ولقد كان هو يبارك دائما ما يفعله والده ، لإدراكه لمدى أهمية ذلك كوسيلة للارتقاء السريع . فكان يستفسر منه دائماً عن أسماء من لهم مصالح في عهدته ، حتى ينتقي من بينهم الشخصية المناسبة التي يمكن أن يجني من ورائها دفعة إلى الأعلى ، حتى أصبح هذا الارتقاء السريع مدعاة للدهشة والتساؤل بين أقرانه . فقد صعد من وسطهم بسرعة البرق إلى أعلى المناصب ، رغم عدم تمتعه بأية ميزة نادرة أو موهبة فذة . 

ولإدراكه بكل ما يتردد عنه فإنه ما إن تولى منصب الحاكم ، حتى أرسل في نفس يوم توليه برسائل سرية يحملها مندوبون يمثلونه شخصياً ، ونبه عليهم بضرورة تسليم تلك الرسائل لأصحابها بصفة شخصية ، واستردادها مرة أخرى بعد الانتهاء من قراءتها . 

وكانت هذه الرسائل موجهة إلى كل من كانت لهم يد في ارتقائه لسلم القيادة والسلطة ، بالإضافة إلى كافة زملائه دون استثناء على مدى تاريخه الوظيفي ، وكافة من تجمعهم به صلة قرابة سواء بالدم أو بالمصاهرة . وكانت الرسالة مختصرة جداً وبدون توقيع وتحتوي على كلمتىن فقط هما .... " لسانك .. حياتك " .

ولطالما روجت كتائب إعلامه لأدبه الجم ، واحترامه لمستشاريه ، وتعففه عن التعامل مع كافة المحيطين به بألفاظ جارحة أو خادشة للحياء . ولكن الحقيقة المؤسفة والخطيرة ما لبثت أن وجدت هي الأخرى طريقها للتسرب ولكن بحذر شديد وخوف أشد . 

فلقد كان يتعامل مع مستشاريه بأسلوب شيطاني لم يتبعه سواه . ولئن كان من سبقوه من الحكام قد أخذتهم الجلالة والعظمة في بعض تعاملاتهم مع مستشاريهم ، فتطاولوا عليهم بالألفاظ الجارحة والردح والصياح بالصوت الحياني أمام صغار الموظفين والخدم ، فلأن ذلك كان مرتبطاً فقط بمدى صفاء مزاجهم أو تكدره .

ولكنه هو ابتدع سياسة ثابتة للتعامل مع مستشاريه ، تبدأ منذ تعيين المستشار وبالتحديد بعد أدائه لليمين . حيث يُفاجأ المستشار بعد انفراده بالحاكم لتلقي توجيهاته ، بعدد من الرجال الملثمين يحيطون به ويوسعونه ضرباً وشتماً وتجريساً وتهزيئاً ، ثم يأمرونه بالسجود أمام الحاكم والتسبيح بحمده ومجده ، ثم يُفاجأ المستشار وهو ساجد بأنهم قد قيدوا حركته تماماً ومزقوا ثيابه ، وأن أحدهم يعتدي عليه جنسياً ، ويظل يصيح ويستنجد بالحاكم ويطلب منه العفو والرحمة ، ولكنهم لا يتركونه إلا بعد أن يغشى عليه أو يتبادلوا جميعاً الاعتداء عليه . وبعد ذلك يجلسونه أمام الحاكم مرة أخرى ، وكأن شيئاً لم يكن ، ويبدأ الحاكم في إصدار توجيهاته وتكليفاته إليه . فيخبره بأن تشريفه بمنصب المستشارية ليس إلا ليكون عيناً له في أحد قطاعات الدولة ، وعلى باقي المستشارين الآخرين ، وبالتالي فإن أي إجراء مهما قل شأنه لايمكنه اتخاذه إلا بعد العرض عليه ، كما إن الاستمرار أو الإعفاء من هذا المنصب رهنا بمشيئته هو فقط دون اعتبار لأية عوامل أخرى ، فرِضاه هو الباب السحري لدخول عالم السلطة وعدم مغادرته . وفي نهاية المقابلة يفاجئه بأنه منذئذ سيناديه في مقابلاتهما المنفردة باسم زوجته ، فإن لم يكن متزوجاً فباسم أمه . وإن كان منصب المستشارية لإمرأة ، فإنه يناديها باسم زوجها أو أبيها .

ولأن تفكيره الشيطاني لم يتوان أبداً عن ابتكار كل ماهو فاجر ومريع ، فإنه أفرد أسلوباً خاصاً للتعامل مع الشواذ من مستشاريه . ولعلها من النوادر التي يتناقلها المقربون والمحيطون ، وبطلها هو المستشار الفاجر الذي فوجىء يوم تعيينه وبعد أدائه لليمين بنفس الطقوس المهينة ، ثم إذا بهم يقيدونه ويطلقون عليه حيواناً دربوه خصيصاً على ممارسة الجنس مع الجن . ولعل هذه الواقعة كانت من أسعد لحظات الحاكم ، فما كان ليحقق لهذا المستشار مراده بأن يطلق عليه رجاله .

ونظراً لأن عقله الشيطاني كان يدرك بأن هذه الطقوس المهينة يمكن أن تتسرب إلى العامة من خلال ألسنة القائمين عليها ، فإنه كلف كتائب إعلامه بأن تروج لشائعات مضادة ، تتهم مرددي وقائع تلك الطقوس بأنهم عملاء لبعض الطامعين في منصب المستشارية ، وأنهم يثيرون هذه الشائعات لكي يعزف المؤهلون لهذا المنصب عنه ، فيخلو الطريق بذلك لهؤلاء الطامعين . ولعله كان راضياً تماماً عن هذا الأسلوب في التعامل مع مستشاريه . فقد ضمن بذلك ولاءهم التام له ، وتعاملهم معه كإله يمنع ويمنح ، ويعذب ويرحم ، كما أنه زرع الشك بينهم ، فضمن عدم اتفاقهم عليه .

ولقد كانت حياته الزوجية مثار تساؤل وفضول المحيطين به والمقربين إليه . لأن زوجته لم تكن تتميز بأي قدر من الجمال ، فضلاً عن أن الشحوب والضعف كانتا هما الصفتان المميزتان لها . ولذلك كانوا ينتظرون منه دائماً أن يطلقها ، أو حتى يقصيها عن الحياة العامة حتى ينساها الشعب . 

ولكنه لم يفعل ذاك ولا ذلك ، فقد تعوَّد منذ زمن أن يستثمر كافة نقاط ضعفه ويحولها إلى نقاط للقوة . فلم يطلقها ويتزوج بامرأة جميلة تليق بمكانته ، لأنه كان يخشى من أن تخلب أية امرأة جميلة عقول المحيطين به ، وعقول أفراد الشعب ، وتصبح بمرور الوقت مركزاً للنفوذ ينتقص من نفوذه الذي لا يشاركه فيه أحد . كما أنه لم يقصها عن الحياة العامة ، حتى يظل شحوبها رمزاً لوفائه وإخلاصه وشدة تمسكه برفيقة عمره ، رغم كافة المغريات لمن في مثل هيلمانه ومكانته .

أيضاً .. ترددت أقوال مصدرها الوصيفات المحيطات بزوجته وجهاز أمنها الخاص ، مفادها بأنها هي الأخرى لم تعشقه يوماً ، فهي لم تشعر معه يوما ما بأي إشباع جنسي ، لأنه كان دائماً بعيداً عن المنزل بحكم مسئوليات عمله ، كما إن رغبته كانت سريعة الخمود ، فما كانت رغبتها لتبدأ في الاشتعال إلا وتكون رغبته هو قد انطفأت ، ولقد كان هذا يدفعها للتبرم فيما بينها وبين نفسها في أوائل حياتهما الزوجية ، ولكن ذكاءها الفطري كان يجعلها تتغاضى عن إظهار ذلك له ، لتسليمها بأن تواضع جمالها لن يتيح لها الارتباط برجل آخر بمثل هذا المنصب والمستقبل اللامع . 

وبمرور الوقت بدأت شهوتها تذوي وتأفل ، وبالذات بعد توليه منصب الحاكم . ولقد كانت تفسر ذلك بان حياة الحكم والنفوذ والقوة صارت تمنحها لذة لا تدانيها لذة أخرى . ولكنها لم تكن تعلم بأنه ما إن تولى الحكم ، حتى أمر جهاز أمنه الخاص بوضع مثبطات للشهوة في طعامها وشرابها وعقاقيرها الطبية ، لأنه لم يعد يطيق الاقتراب منها ، فشحوبها أورثه الزهد فيها ، كما أنه بأفكاره الشيطانية كان يعلم بما يمكن أن تفعله صولة السلطة بالنفوس ، مما يدفع المرأة لاقتراف أي شيء ، ما دامت تأمر فَتُطاع . وهو لم يكن على استعداد أبداً للظهور أمام جهاز أمنه الخاص بمظهر المغفل الذي تخونه زوجته مع وصيفة شاذة أو خادم قذر .

ولقد بدأ بعدما تأكد من تثبيته لدعائم حكمه ودوائر نفوذه ، في الالتفات إلى رغباته الجسدية ليثبت دعائمها هي الأخرى . ولعل رغبته راودته كثيراً في أن يقرب إليه أحد أجمل الجميلات ليتخذها محظية ، فيأتيها كلما استبد به الشوق . ولكنه لم يستسلم لهذا الخاطر الساذج ، فسرعان ما بدأت أفكاره الشيطانية في التوارد ، حتى انتهى إلى ضرورة عدم اقتصار رغبته على امرأة واحدة فقط ، ففي هذا خطورة ما بعدها خطورة على أمنه وأسراره وعلى استقرار حكمه . ثم ما الفارق بينه وأى صعلوك إذا اقتصرت رغبته على امرأة واحدة بعينها ، حتى وإن كانت أجمل الجميلات . كما إنه من داخله كان يحتقر كافة النساء ، ولا يرى إلا إنهن فروج نتنة لا يأتيها الرجال إلا تحت وطأة تلك الرغبة الجامحة .

لذلك أسفرت أفكاره الشيطانية عن نظام فريد يضمن له عدم التعلق بامرأة بعينها ، كما يضمن له عدم تعرف أي من تلك النساء عليه ، حيث كوّن جهازاً خاصاً ألحقه بجهاز أمنه الخاص ، كانت مهمته الوحيدة هي إشباع رغباته الجسدية . ويتم ذلك برصد أجمل الجميلات بصفة دورية ، وعرض صورهن عليه حتى يختار منهن أربعاً فقط . فيتم اختطافهن بمعرفة جهاز أمنه الخاص والكشف عليهن للتأكد من خلوهن من الأمراض ، وفي مخدعه الخاص يتم تقييدهن ــ وتعصيب عيونهن ــ على الطبلية الدوارة التي ابتدعها هو لممارسة الجنس مع أربع من النساء في نفس الوقت ؛ بحيث يظل يأتي الأربع تباعاً حتى تنطفيء رغبته ، والتي كان يطيل في أمدها باستخدام عقاقير نادرة وباهظة الثمن ، استوردها خصيصاً من بلدان الأطراف المتقدمة .

ولقد استمر على هذا المنوال زمناً ، ولكن لإفراطه في استخدام تلك العقاقير فسرعان ما أصابته بأثار عكسية أضعفت بمرور الوقت من قدرته الجنسية . 

وقد أكد له الأطباء بأنه لاعلاج لحالته إلا بالتدخل الجراحي لتركيب أجهزة تعويضية تمكنه من استعادة قدراته ، ولما كان هذا النوع من العمليات لا يُجرَى بنجاح تام إلا في أحد بلدان الأطراف المتقدمة . فإنه استبعد ذلك تماماً ، لعدم ثقته في أولئك الأجانب ، وخشيته من تتبع أجهزة أمنهم له وابتزازه سياسياً لقاء عدم نشر تلك الفضيحة ، بالإضافة إلى علمه باستقلال أجهزة إعلامهم عن السلطة ، وإمكانية توصلها للخبر ونشره في أقطار العالم ، فينفضح أمره في كافة البلدان ، ويزول حكمه من أجل إصلاح رجولته .

لهذا سرعان ما ابتدع أساليب جديدة اتسمت بالانحراف والشذوذ والجنون الجنسي . فأصدر الأوامر لجهاز رغباته الجسدية برصد الشواذ والشاذات واختطاف من يقع عليهم اختياره ، وفي مخدعه الخاص يتم إجبارهم على ممارسة الشذوذ في حضوره مرتدياً قناعاً يخفي شخصيته . 

وكان يجد في متابعته لتلك الممارسات الشاذة لذة طاغية ، لا تتفوق عليها إلا لذة مشاهدته لأب يأتي إبنته أو إبن يأتي أمه أو شقيق يأتي شقيقته ، فكلف جهاز رغباته الجسديه باختطاف من يحدده من المعارضين للحكم ، ثم اختطاف أحد أفراد أسرته ، وفي مخدعه يتم تلثيمهما وتكميمهما فلا يتعرف أحدهما على الآخر أثناء ممارستهما للجنس معاً . فيأتي الوالد إبنته أو إبنه ، ويأتي المرأة إبنها أو والدها ، بينما يجلس هو بأحد أركان المخدع ملثماً يراقب ما يحدث بلذة طاغية .

- ولعل هذا آخر ما وصلني من أخبار جنونه الجنسي .. 

هكذا قالت لى نورجان ، التي لاحظت علامات الذهول والذعر ترتسم على وجهي ، فحاولَت التخفيف من روعي بأن تغير مجرى الحديث . 

ولكنني بادرتها بقولي : إن من يفعل كل ذلك لايمكن إلا أن يكون شيطاناً رجيماً . فأضافت : بل هو عميد الشياطين في هذا البلد .

ولكنني لم أستطع إخفاء دهشتي من وقوعها على كافة تلك المعلومات الدقيقة عن شيطان يحرص على مزاولة كل شروره خلف الأسوار والمتاريس . 

فصارحتني بأن كل هذا وصل إليها من خلال صديقة لها على علاقة بأحد أفراد جهاز أمنه الخاص .

ولقد شردتُ قليلاً ، فاستوضحتني عن سبب شرودب ، فصارحتها بأنني كنت أنتظر منها أن تحكي لي عن كيفية إدارته للحكم في البلاد ، ولكن يبدو أن غرامها بأخبار الفضائح جعل معظم حديثها يقتصر على حياته الجنسية .

فاشتعلت غضباً وصاحت في وجهي : وهل تظن بعد كل ما سمعته مني عن شيطان كهذا ، أنه سيدير حكم البلاد بالعدل والرحمة ، لقد حدثتك عما لا يمكنك الإحاطة به مهما مكثت في هذه البقاع ، أما أمر إدارته للبلاد ، فستعاينه بنفسك من تبصرك في الوقائع والأحوال .

وشردتُ مرة أخرى .. ولكن بعيداً ، بعيداً داخل أعماق ذاكرتي الفارغة ، لعلي أجد بداخلها ما ينقذني مما سمعته من فظائع وأهوال ، ولكنها كانت مظلمة باردة ، كأنما اعتادت منذ أمد على حفظ المظالم والآلام ونسيان الأماني والأحلام .

* * * *

الأحوال


يسري في البلاد سخط مكتوم ، وغضب مكبوت ، يزلزلان جبال الصبر الشاهقة التي تحصن حياة العباد بفيض من قوة الاحتمال ونعمة النسيان . وتتلاقى العيون منكسرة في تساؤل بلا كلام : إلى متى هذا الذل وذاك الهوان ؟ وتضطرم الصدور بغل مدفون قيامته آتية لا ريب فيها . وكالوباء ــ الذي تمكن من جسد عليل فلا تزيده انتفاضات الاحتضار إلا شراهة ــ انتشر رجال الأمن في ثنايا البقاع وأرجائها ، لتنفيذ أوامر الحاكم برصد الأنفاس والهمسات والخلجات ، تأديباً لأولئك السناكيح الذين لم تزدهم حكمته إلا خساراً ، فليذقهم إذن نهار طيشه وليل بطشه .

ولقد عاينت كل ما أدى لذلك بنفسي . لم يسرده عليّ أحد ، ولم تروه لي نورجان , ففي قلب أحداث ذلك اليوم كنت قائماً ، ووجدتني يومها وسط العباد ، يذلني ذلهم ، ويبلعني ضعفهم ، ويطحنني خوفهم وذعرهم .

كانت البلد تحتفل في هذا اليوم المبارك بمناسبة دينية سنوية . وكان لهذه المناسبة جلال وسحر يلقيان بظلالهما على البقاع والنفوس . وعلمت من نورجان بأن الحاكم يحتفل بهذه المناسبة في أكبر دار للعبادة بالبلد ، حيث يؤم العباد في الصلاة ، ثم يخطب فيهم خطبة تصفها كتائب إعلامه بالتاريخية . 

واستبد بي الفضول لرؤية ذلك الشيطان جهرة ، والاستماع إلى بيانه ، ومعاينة جاهه وهيلمانه . لكن شدة الزحام في يوم الاحتفال أبعدت مجلسي إلى الصفوف الخلفية ، في أقصى ساحة الصلاة الفخمة المتسعة ، ولالتفاف حراسه حوله أثناء وصوله ، لم أستطع أبداً مطالعته . وفور قدومه أَذَنَ المؤذن ، فتقدم الحاكم الصفوف ليؤم الصلاة . 

كان صوته في التلاوة بارداً جافاً ، خالياً من أي أثر للتقوى ، كآلة صماء لا تعي ما تردده من أقدس الأذكار . ولكنه كان يسجد طويلاً كأنما كان يلهج ويتهدج بالدعاء .... لكن نورجان أفهمتني فيما بعد أنه كان يتصنع ذلك عملاً بنصيحة خلصائه ، الذين أوصوه بترقيق صوته أثناء التلاوة وإطالته للسجود كمظهر للورع والخشوع . فصاح فيهم حينئذ معلناً عدم تصديقه لقول واحد من هذه الأذكار المقدسة ، فما هي إلا أساطير الأولين ، وأنه على مضض سيكتفي فقط بإطالة السجود ...... وفي نهاية الركعة الأخيرة سلم يميناً ، ثم استدار ليسلم يساراً ، وإذا بصوته يزأر صائحاً :

سرقوا مني صولجاني ، سرقوا مني صولجاني .

وتكهرب الجو ، وانتشر رجال الأمن كالبرق على كافة المداخل والفتحات والأبواب ، وفي لحظات حاصروا دار العبادة . وارتفع صوته يأمر جمع المصلين بالسجود ، فاندفع رجال الأمن يدفعون العباد للسجود امتثالا لأوامره ، واعتلى هو المنبر ، وصاح هائجاً :

أيها السناكيح ، أصلي بكم فإذا بكم تسرقونني وأنا الجدير بأن تصلوا لي . تعيشون في ظل رحمتي ، وأتقدمكم للصلاة لغيري فتسرقونني . فلتسجدوا الآن لي ، ولتذوقوا عذابي ، ولتودعوا منذ الآن رحمتي ، فليس أمامكم بعد اليوم إلا الشقاء المقيم . أيها السناكيح الأجلاف ، فليظهر صولجاني المنحوت من الصخور النارية ، والذي يخطف وهجه الأبصار . وليتقدم من سولت له نفسه القذرة سرقة حاكمه ، لكي أحرقه بنيران غضبي .

وأعترى الجمع الغفير الساجد نحيب ونشيج ورعشة ، ورفرفت ظلال الموت على النفوس ، وإذا به يتابع صائحاً :

لم يتقدم منكم أحد ، إذن فسأخرجه بنفسي ، وإن عذابي لشديد .

وأمر رجاله باقتياد الحاضرين رجلاً رجلاً إليه ، وضربه وتقريعه حتى يتفصد منه الدم ، وتجريده من ملابسه بحثاً عن الصولجان ، ثم طرده إلى الطريق عارياً يحمل أسماله ، بينما تلاحقه اللكمات والركلات .

وفوجىء المارة العابرون بالمصلين يندفعون فارين وهم عراة إلى عرض الطريق ، بينما يتعثرون في أسمالهم ، وتشيعهم اللعنات والشتائم . 

فتجمع العباد ، واحتشد العشرات منهم ثم المئات فالآلاف ، حتى سُدت كافة الطرق والمداخل المؤدية إلى دار العبادة . وكان كلما خرج أحد الرجال عارياً ، تلقفه الواقفون لستر عريه عن أعين الجموع .

ولقد استمر الحاكم قائماً على رجاله داخل دار العبادة ، حتى تم تفتيش كافة العباد ، ولما لم يظهر للصولجان من أثر ، استدار إلى مستشاريه ورجال أمنه ونظراته نحوهم يملؤها الشك ، وأمرهم جميعاً بالسجود ، وقام بتفتيشهم بنفسه ، لكنه لم يعثر على شيء . فأمر الحراس بتفتيش دار العبادة وجس أرضياتها وحوائطها واقتحام حجراتها ومخازنها . وبعد فترة عادوا إليه والخيبة تسبق خطواتهم ، بعدما حولوا الدار إلى خرابة نُبشت أرضياتها وتقشرت حوائطها ، وبدت كأنما دارت بداخلها معركة حربية خربت فيها كل ماهو مقدس وجليل . وانفجر غضبه وتعاظم هياجه ، وظل يسب في رجاله ومستشاريه حتى بح صوته وانقلبت سحنته ، ثم أمرهم بإعداد موكبه للمغادرة ، لكنهم لم يتحركوا ، فبهت من عدم امتثالهم لأمره ، فصاح فيهم مرة أخرى ، فأشاروا إلى الخارج ، فتقدم ناظراً وإذا بالجموع الحاشدة قد غطت الميدان الشاسع ، وجحافل الأمن تقف أمامها عاجزة . فالتفت إلى رجاله والقلق يعلو ملامحه وتمتم:

وكيف إذن الخروج .. كيف إذن الخروج ؟

وأخذ يروح جيئة وذهاباً وخطواته يعثّرها الذهول . وإذا فجأة بصوت هادر ينطلق من كافة الأنحاء والأركان ، ويتجلجل راعداً :

.... هي كانت عزبة أبوك ....

.... هي كانت عزبة أبوك ....

واستمر صدى الصوت الهادر يتردد ، فسَرَت في الجموع رهبة ، وأخذت الرؤوس تتلفت والعيون تدور بحثاً عن مصدر هذا الصوت . ثم بدأت تندلع في الحشود فوضى واضطراب ، فقد تملك العباد ذعر وهلع لظنهم بأن هذه إشارة الهجوم لجحافل الأمن المرابطة حولهم ، فانطلقوا في كافة الأنحاء فارين ، وساد الهرج والمرج الميدان الكبير ، وأخذ العباد يدوس بعضهم البعض طلباً للنجاة .

ولقد تسمر الحاكم في مكانه عند سماعه للصوت الهادر ، ثم اندفع يهذي : ما هذا .. ما هذا .

ثم أخذ يصيح في هلع : أخرجوني من هنا .. أخرجوني من هنا .

ثم التفت إلى رجاله مستنجداً : أيكم ينقلني لقصرى .

فقال له عفريتُ ُ من رجاله : أنا أنقلك إليه قبل أن يصلوا إليك .

وقال له الذي عنده علم الشياطين : أنا أنقلك إليه قبل أن يرتد إليك طرفك .. 

فلما وجد نفسه بقصره ، ارتعد غاضباً وصاح زاعقاً : إنني على كل شىء قدير .

* * * *


ــ " هي كانت عزبة أبوك " .

هكذا رددتُ لنورجان الصياح الهادر الذي سمعته كباقي العباد ، بينما هي تضمد لي جراحي . فلقد نالني ما نال الجميع ، وخرجت فاراً من ساحة الصلاة عارياً أتخبط في ذعري ودمائي ، وتلقفتني الجموع لتستر عورتي ، وإذا بالصوت الهادر يتجلجل .

ولقد أطرقت نورجان ، ثم قالت : ولكن أين اختفى الصولجان ؟ وما هذا الصوت ومن أين انطلق ؟ 

فأجبتها : لقد انطلق من كل الاتجاهات .

فتساءلت : ولكن كيف ؟ ومن المقصود بهذا النداء .

فنظرت لها مدهوشاً : تقولين من المقصود بهذا النداء ، إنه الحاكم ولا شك ، إن الصوت كان يخاطبه هو دون جدال ، ولو أدرك العباد هذا من الوهلة الأولى ، ما كانوا فضوا بخوفهم حشدهم الغفير ، الذي ولاشك ملأ قلب هذا الشيطان بالرعب والهلع .

وشردت نورجان لوهلة ثم قالت و كأنها تحدث نفسها : لكن من الذي يجرؤ على مواجهة شيطان كهذا بمثل هذا النداء ؟

فرددتُ بعدها بقلب واجف : حقاً .. من الذي يجرؤ على سرقة شيطان كهذا ، ومواجهته بمثل هذا النداء ؟ ( هي كانت عزبة أبوك ) .

* * * *


مستشار الخوف


اعتاد دائماً على أن تختلف نواياه عن أفعاله . وعلى أن يُظهر غير ما يبطن . فهو بحكم تدرجه في مناصب هذا الجهاز ، يعلم تماماً بأن الفاصل بين الموت والحياة أو بين الشقاء والنعيم ، يتوقف على تقرير ... نعم .. تقرير يكتبه أحد المحيطين ليكشف فيه عن نقطة ضعف واحدة ، أو عن كلمة نقد عارضة . ولذلك فقد درب لسانه على أن يتحدث بغير ما يمليه عليه عقله ، ودرب ملامحه على أن تشي بغير ما يضطرم بداخل نفسه . 

ولقد أتقن كل ذلك تماماً . فهو بحكم نشأته المنحطة وأصوله الوضيعة ، تعوّد دائماً على لعبة الأوجه المتعددة . فلقد علّمه طموحه الزائد بأن الطريق إلى القمة لا يبدأ من عند السفح ، وإنما بالقفز على القمة مباشرة . ولذلك فإن حقيقته البائسة كانت سفحاً لا ينبغي التطلع إليه أو إطلاع أحد عليه . فهي سره الدفين وكهفه المحجوب . ولعل قدرته تلك على تناسي الماضي والتعايش فقط مع الحاضر ، قد مكنته من الوصول سريعاً إلى أوساط البارزين . فكان ينقلب ثرياً وسط الأثرياء ، وسيداً وسط الأعيان ، مثقفاً وسط العلماء والمفكرين ، شاذا وسط الشواذ ، سكيراً وسط المخمورين ، حشاشاً وشماماً وسط أصحاب الأنفاس . 

ولذلك فسرعان ما وصل إلى غايته سريعاً حتى أصبح شيطاناً وسط طائفة الشياطين . ولقد أتقن الشيطنة حتى اختصه الحاكم بمنصب مستشار الأمن .

أيقن منذ البدايه أن الأمن الذي ينشده الحاكم ليس إلا أمنه هو وليس أمن الشعب . لذا وطد عزمه تماماً على امتلاك ناصية ذلك الجبار من خلال هاجس الأمن . فتحت مسمى الأمن يمكنه أن يصول ويجول في هذا البلد طولاً وعرضاً ، فيتحكم في العباد ، ويمتلك الرقاب ، وينشر الخوف أو يمنح الأمان . 

ولكنه لم يكن مثل أولئك الذين سبقوه في هذا المنصب ومارسوا الشيطنة بسذاجة ، وأخلصوا للحاكم فكان إخلاصهم وبالاً عليهم . بل لقد أيقن منذ اللحظة الأولى بأن هذا الجبار إذا اطمأن غدر . ولذلك كان لابد من إعاشته في قلق دائم وخوف مزمن لايستطيع منهما فكاكاً . 

ولكنه كان يدرك بأن هذا القلق لو تحول إلى ذعر أو هلع فإن فيه نهايته . فشرع منذ بداية توليه لهذا المنصب في إعادة رصد كافة تنظيمات الجائرين ، ومراقبة أحوالها وتحركاتها ، ولكنه لم يكن يبادر بإماطة اللثام عنها ، بل كان على العكس يضطلع في الخفاء بتمويلها وتسليحها بقدر محسوب . فإذا ما بدأت تظهر على إحداها بعض مظاهر القوة غير المأمونة ، فإنه سرعان ما يدفع ببعض عملائه السريين لإحداث انشقاقٍ داخل هذا التنظيم ، أو تدبير صراعٍ على المناصب القيادية بين أعضائه . فإن صمد التنظيم أمام كل ذلك ، فسرعان ما يدبر لقتل قائده أو خطفه وحبسه لحين الحاجة إليه ، أو إلصاق تهمة مشينة به تنال من عرضه وشرفه . وبذلك يضمن بقاء كافة التنظيمات ، ولكن دون خطورة تهدد أمن الحاكم ، بما يمكن أن يهدد من حظوته لديه .

ولكنه لم يكن يكتفي بذلك . فعقليته الشيطانية كانت مصنعاً لإنتاج وإنشاء التنظيمات الوهمية التي لا وجود لها ، والتي يتحين التوقيت المناسب لكي يدفع بأحدها إلى أرض الواقع . فينسب إليه الدسائس والمؤامرات ومحاولات الإطاحه بالحاكم . بل سرعان ما ينشر في أنحاء البلد منشورات تحمل أفكار هذا التنظيم وتهديداته لرموز الحكم ، ثم يكلف بعض رجاله باغتيال أحد المقربين الذي يضمر له هو شخصياً العداء لعلمه بطمعه في منصبه ، ثم ينسب أمر اغتياله إلى ذلك التنظيم الوهمي . 

وآنذاك يزداد هلع الحاكم فيستدعيه ليصب عليه جام غضبه ، ولكنه سرعان ما يكاشفه بأن كافة الأمور تحت السيطرة ، ويرجوه التكرم بمنحه مهلة قصيرة ليقدم له هؤلاء الخونة وهم صاغرون . 

وخلال هذه المهلة يبدأ في تكليف رجاله بإلقاء القبض على عدة أشخاص يختارهم بعناية ، ويأمر بتعريضهم لألوان من التعذيب الوحشي ، الذي ترافقه عملية تلقين لأفكار هذا التنظيم ، وتدريب على مجموعة من الاعترافات الكاملة والمتناسقة . وما إن يطمأن إلى اكتمال كافة أركان هذا التنظيم ، حتى يعلن للحاكم عن نجاحه في إلقاء القبض على كافة أعضائه . وبذلك كان يصطاد هدفين بضربة واحدة . فمن جهة يفوز بالحظوة والمكانة لدى الحاكم ، ومن جهة أخرى يضمن استمرار بقاء تنظيمات الجائرين الحقيقية بتهديداتها التي تذكي نار القلق لدى الحاكم ، فيأمن غدره وتقلبه .

ولكنه اليوم يشعر بأن عقليته الشيطانية قد أصابها الشلل . فقد دهمته مصيبتان في يوم واحد ، بوغت بهما ، فكأنما ليس له عيون وآذان ترصد حركة الذرة في هذا البلد . فمن هذا الذي جرؤ على سرقة ذلك الصولجان ؟ 

ومن ذلك الذي أطلق هذا الصياح الهادر فزلزل الميدان الفسيح ؟ .. 

حقاً إنه يشعر بالامتنان لذلك الصوت لأنه جنبه مواجهة دامية مع تلك الحشود لتفريقها ، ولكنه في الوقت نفسه مُطالب أمام الحاكم بمعرفة كنه ذلك الصوت ، وإعادة ذلك الصولجان اللعين . 

فهل يمارس مع هذا الأمر أيضاً خدعة التنظيمات الوهمية ؟ 

ولكن ماذا لو انطلق الصوت بعد ذلك مرة أخرى ، أو ظهر الصولجان ووقع في يد الحاكم واكتشف الخدعة . 

ولكن مهلاً .. ماذا لو كان هذا الأمر خدعة من تدبير الحاكم نفسه ، ولكن كيف يمكن معرفة ذلك ؟ 

إنه لن يهدأ منذ الآن ، سيطلق عيونه وآذانه في كل شبر . سيراقب كافة المستشارين والمقربين والمنتفعين والشياطين والصالحين والجائرين والسناكيح . سيراقب حتى أخلص رجاله وأصدق أعوانه . فلقد أصبح استمرار انتمائه إلى طائفة الشياطين أمراً مشكوكاً فيه بعد هذه الكارثة . وأصبح منصبه مهدداً بالزوال . وهو لن ينحدر إلى درك السناكيح مرة أخرى ، فحياته لم تصبح لها قيمة إلا وسط الشياطين ، وهو يعلم أنه بذلك قد خسر الآخرة ــ إذا كان لها وجود كما يدعى السناكيح ــ ولكنه لن يسمح أبداً بأن يخسر ولو ذرة من هذه الدنيا .

* * * *


المستشار الفاجر


لم يكن شذوذه أمراً مشيناً يُشعره بالعار والخزي والهوان . بل كان يفخر بأنه رغم شذوذه ارتقى إلى هذا المنصب السامي ، في بلد يتعامل مع الشذوذ باعتباره نقيصة وانحطاط توجبان القتل والتشهير . 

ولقد كان يتشفى في سره على هذا المجتمع الذي يتشدق بمكارم الأخلاق ، بينما الشذوذ والرذيلة والانحلال تفشوا في أهله ، ورغم ذلك يصر على دفن رأسه في رمال الفضيلة ، بينما يرتع باقي جسده في مستنقعات الفساد . فلقد اطَّلع بحكم شذوذه على حقائق تفوق كل خيال . فعاين بنفسه بل وابتل ظهره بشذوذ الأتقياء والورعين والطاهرين ، والذين يرتدون مسوح الملائكة بينما هم من الشياطين . وسمع بنفسه من كبار السحاقيات عن شذوذ الفاضلات العفيفات الغافلات ، اللاتي تترغرغ عيونهن بدموع الإيمان بينما فروجهن ملوثة بلعاب العاشقات .

ولقد كان يضمر بداخله حقداً دفيناً على أولئك الأسوياء ، الذين لم يكابدوا عناء تمرد النفس على الجسد ، فأشبعوا رغباتهم بكل بساطة ونهم ، ولم يكبتوها تحت أستار من السرية والخفاء والعزلة والاضطهاد . وكان حقده يدفعه إلى التفلسف ، فيعلن وهو يعلم بأنه يغالط ، بأن الشذوذ علامة على تفوق عالم الجان وارتقائه من حيوانية الفطرة إلى نضج الاختيار . وأن الأسوياء بذلك ليسوا إلا حيوانات عاقلة أفقدها تضخم الفطرة القدرة على تحمل مسئولية الاختيار . فعالم الحيوان لا يعرف الشذوذ لأنه عالم لا يحكمه العقل بل تحكمه الغريزة فينعدم فيه الاختيار . وبذلك فالأسوياء ماهم إلا جان غرائزيين أو حيوانات عاقلة .

ولعل فنه كان أكبر مظهرٍ على شذوذه . وذلك منذ أن بدأ اسمه يتردد في أروقة الساحات الفنية ، وتنتشر لوحاته في صالات المعارض العالمية . 

فهو لم يخف غرامه بل وولعه بالعضو الذكري في كافة أعماله الفنية . بحيث أصبح عنصراً أساسياً ومميزاً لرؤيته الإبداعية . فهو تارة يصوره سريالياً كبلبل صداح أو كحمامة ترقد على بيضتين . وتارة يصوره تجريدياً كجبل تحضنه السماء أو كشجرة تشق الصخور . أو انطباعياً كمسمار يُدق في الخشب أو كإبرة تخيط الأقمشة . أو جمالياً كزهرة يقطر منها الندى أو كنحلة تلدغ وتمنح العسل . 

وكان لا يخجل من التصريح بأن أعضاء الذكورة الواضحة البارزة المُعلنة في انتصاب عن رغبتها المتوهجة ، أكثر روعة وفتنة وجمالاً من أعضاء الأنوثة المخفية المنزوية القابعة في خمول لا يشي بأي رغبة . 

ولذلك احتار العباد وتاه دليلهم عندما فوجئوا بالحاكم يعينه في منصب مستشار الفكر والفنون . وأخذوا يضربون كفاً بكف ويتساءلون : أيحكم أمر فكرنا وفنوننا الشواذ منا ؟ بل وأخذوا يتهامسون بخوف قائلين : هل لايعلم الحاكم بأمر شذوذه ؟ ولكن كيف وهو الذي يحسب على كافة العباد أنفاسهم وخلجاتهم . ولكن إذا كان يعلم وارتضاه مستشاراً ، فلا شك بأنه هو الآخر ... ولكنهم سرعان ما كانوا يفيقون ولا يكملون . 

ولكنه كان هو الوحيد الذي يعلم سبب اختياره . حيث قرر له الحاكم يوم تعيينه ، وبعد أن مارس معه رجاله طقوس التعيين المهينة ، بأنه اختاره لشذوذه ، لأنه يخشى جداً أولئك المثقفين والمفكرين والمبدعين . فهم يأسرون العباد بصفاء وجرأة أفكارهم وسحر فنونهم . لذا ولاه عليهم لينجذب إليه ويتحلق حوله الشواذ منهم ، فتسود أفكارهم وتزدهر فنونهم . بينما ينأى عنه الأسوياء منهم ، فتذوي أفكارهم وتأفل فنونهم . وبذلك يأمن شرورهم ، لأن الشواذ منهم سيصبحون لقمة سائغة يمكن بسهولة التعريض بانحلالها أمام العباد ، لو سولت لهم أنفسهم معارضة نظام حكمه وإدارته للبلاد . أما الأسوياء منهم فإن انزواءهم سيسحبهم إلى دائرة النسيان ، فتسهل ملاحقة الناشطين منهم دون إثارة تذمر العباد .

ولقد أدرك وقتها بأنه تلميذ صغير في بلاط ذلك الشيطان العتيد . وأيقن بأنه لا مجال لخداعه أو استغفاله . فالتزم منذ بداية تعيينه بأن يقدم له كشفاً دورياً يحوي أسماء الشواذ من أهل الفكر والفنون ، أو من يلمح فيهم بخبرته استعداداً كامناً للشذوذ ولكن تنقصهم الجرأة على إطلاق العنان لرغباتهم . وكان بالمقابل يتلقى منه أمراً شفوياً بأسماء من يرغب في لمعانه منهم ، فيعمل مباشرة على ذيوع أفكارهم ومؤلفاتهم وانتشار فنونهم وإبداعاتهم . وبذلك اكتسب لدى ذلك الجبار الحظوة والمكانة ، ونال الرضا والتقدير .

ولكنه اليوم أدرك بأن كل ذلك في طريقه إلى الضياع . فلقد كشر ذلك الشيطان عن أنيابه ، وحطم له كافة آماله عندما طرحه أرضا وداس على رأسه ، وقال له هائجاً متوعداً بأن ما من أحد يعلم بالقيمة الأثرية للصولجان سواه ، لأنه بحكم منصبه اطّلع على الوثائق السرية التي تزعم بأن هذا الصولجان وُجد في الأطلال التاريخية ، التي يدعى الأجداد بأنها كانت منازلاً لإبليس بعد طرده من الجنة . وأنه ما من تفسير إلا أن يكون شذوذه قد غلب حذره ، فانسرب منه السر وهو منبطح على بطنه وفوق ظهره أحد شواذ الجائرين . 

ولقد بكى ونهنه تحت قدميّ الحاكم ، وأقسم بعزته وجلاله وجبروته وهيلمانه بأنه لم ينبس بهذا السر ولم يردده حتى لنفسه في منامه أو صحوه . ولكن كل هذا لم يشفع له عنده ، وصاح فيه زاعقاً بأن عليه أن يراجع قائمة خارقيه وناكحيه حتى يصل إلى من استغفله منهم ، وإلا فإن عذابه لشديد .

ولقد أذهلته المفاجأة . فهل يصبح شذوذه الذي كان دائما مصدراً لقوته وانتصاره ، سبباً في نهايته وذله . 

إنه لا ينسى أبداً كيف استثمر دائما وبكل نجاح رقاعته وشذوذه ، حتى إنه لم يتردد في استخدامهما للإيقاع بزوج أمه ، فقد ظل يلاحقه بنظراته الناعسة وجسده المتلوي المتأود ، حتى انذهل الرجل وانفرد به ذات يوم وناله ، ومن يومها زهد الرجل في أمه وأصبح لايقربها حتى طلقها ، وتحقق له هو مراده بأن يستأثر وحده بعطفها ورعايتها دون شريك . 

فهل حقاً خانه لسانه وهو في أوج رغبته فصرح بما لاينبغي التصريح به ؟ إنه يعلم بأنه يفقد عقله ساعتها ، ويهذي بأي شيء وكل شيء ، ولكنه غالبا ما يكون كلاماً غير مفهوم . فهل خرج السر منه دون أن يشعر ؟ 

إنه يقسم بأنه سيسدها لو كانت سبباً في مهانته وذله وعودته مدحوراً إلى بؤس وشقاء السناكيح . .سيشحذ ذاكرته ليتذكر عشاقه واحداً واحداً رغم كثرتهم ، ولن ينجو من بطشه أحد إلا بعد أن يصل إلى ذلك الخائن منهم . فهو لن يطيب له العيش أبداً أبداً ، مطروداً من جاه وسلطان الشياطين . فالشيطنة هي ماله وبنوه ولذته ومجونه ، ولن يرضى عنها بديلاً .

* * * *


الأحوال


اجتمع الحاكم بمجلس المستشارين . وكانت هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها المجلس كله للاجتماع تحت رئاسته . فقد كانت سياسته ترى دائماً في اجتماع المستشارين معاً بصفة دورية أمراً له خطورته الكبرى . لأن هذا يسمح بمد جسور المودة بينهم ، ويتيح إمكانية التنسيق فيما بينهم ، مما يؤدي بمرور الوقت إلى اعتدادهم بقوة تجمعهم وثقل مراكزهم في مواجهة نفوذه وسلطانه . ولذلك كان دائماً يجتمع بهم فرادى ، ولا يسمح لهم أبداً بالالتقاء ببعضهم البعض ، ويوافيه جهاز أمنه بتقارير دورية توضح مدى الالتزام بهذا الأمر .

ولقد أدرك المستشارون بأن الأمر جلل . وأن الأجواء تحمل نذير غضب وثورة عارمة سيصبها هذا الشيطان فوق رؤوسهم جميعاً دفعة واحدة ، ولذلك دعاهم مجتمعين . ولعل ضيق الوقت لم يتح لهم تخيل ما قد دُبر لهم . فما إن دخلوا قاعة الاجتماعات الفسيحة ، والتي سمعوا عنها فقط بينما لم تتح لهم مشاهدتها ، حتى فوجئوا بخلوها تماماً من أي أثاث أو تجهيزات ، وسرعان ما أُغلقت الابواب خلفهم ، وانشقت الحوائط عن جيش من الرجال الملثمين والمدججين بالهراوات والعصي ، وانهال عليهم الضرب من كل جانب ، حتى صار الرجال يصوتون من الرعب كالنساء ، بينما النساء يجأرن من الألم كالرجال . 

ثم ظهر الحاكم في القاعة التي تحولت إلى قطعة من الجحيم ورفع ذراعه آمراً رجاله بالتوقف ، وأخذ يتفقد مستشاريه الذين تغطت بهم أرض القاعة بينما يبصق عليهم واحداً بعد الآخر حتى انتهى . ثم ارتفع صياحه وسط أصوات النحيب والنشيج مجلجلاً :

أيها الأنجاس العفنون ، لقد أسكرتكم خمر نعمتي ، فتركتم البلاد للعباد يعيثون فيها فساداً ، وما هي إلا أيام حتى أجد السناكيح اقتحموا عليّ قصري ونهبوا أموالي وقوضوا حكمي ، وأعدموني شنقاً وسط الميدان الفسيح . فماذا أنتم فاعلون ؟ إنني إلهكم الأعلى ، وإن زال ملكي زالت مناصبكم وأموالكم ونساؤكم وأبناؤكم . فماذا أنتم فاعلون ؟ أجيبوني وإلا أفرغت عليكم جام حنقي فلا تخرجون من هنا إلا أشلاء ممزقة .

وأمر رجاله بأن يحملوا إليه واحداً واحداً منهم ، ويلقونه تحت قدميه . فحملوا إليه مستشار البناء والتشييد ، فصاح فيه غاضباً :

ماذا فعلت بمنصبك ياشيخ منسر البنائين ؟ هل وليتك لتسرق وتنهب فقط ، بينما تغفل عن تدعيم حكمي وسلطاني . أجبني وإلا قتلتك في الحال .

فأخذ الرجل يسترحمه ويستعطفه وهو يضع يديه فوق رأسه اتقاء لضربات متوقعة ، وأجاب مرعوباً :

وعزتك وجلالك ما قصرت ولا فرطت . لقد نفذت توجيهاتك وأتممت تكليفاتك . ورجالي يخرجون كل ليلة تحت جنح الليل ليحفروا المطبات في الطرق الرئيسية ليتعثر فيها العباد ولتتصادم من جرائها وسائل المواصلات ، وإحصاءات الحوادث في ازدياد دائم ، وتوضح ذهول العباد من هول المصائب والكوارث التي تحل عليهم فتشغلهم عن أمور وشئون الحكم والدولة . 

كما أنني لا أترك طريقاً إلا وأمرت بحفره ونقبه كل فترة بحجة إجراء بعض الإصلاحات ، وذلك حتى تتعطل حركة المواصلات وتتعطل مصالح العباد ، ويفر الوقت منهم فلا يجدوا فيه لحظة واحدة من فراغ تدعوهم لإعمال الفكر والتأمل . ولقد أشرفت بنفسي على استيراد مواد البناء الفاسدة ، وإحصاءات المباني المنهارة والمتساقطة في ارتفاع مستمر ، فيموت تحت أنقاضها من كُتب عليه الموت ، أما من ينجو فإنه يحيا ما بقى له من حياته بنصف عقل لا يعينه على النقد أو الشجب . 

كما أن قوانين الإسكان الاستثنائية التي ورثناها من عهود سابقة ، قد أشعلت أسعار المساكن ، وأصبح الحصول على مأوى يحتاج إلى ثروة ، فصار العباد يهاجرون إلى البلدان الغنيه المجاورة ، فيكدحون نصف أعمارهم حتى يدخروا قيمة المأوى ، ولايعودون إلا بعد أن يكونوا قد فقدوا شبابهم وحماسهم ، فيعيشون كما قدّرنا لهم .

وما فعلت كل ذلك عن أمري ، إن هي إلا توجيهاتك و تكليفاتك قد شرفتني بتنفيذها ، فما قصرت ولا تهاونت . وإن كنت أفرطت في السرقة والنهب فهذا اجتهادي لإتقان دوري ، وأسألك غفرانك إذا أخطأت .

... ثم أمر رجاله بأن يحملوا له مستشار الصحة . فتلا عليه الرجل دوره في نشر الأمراض الوبائية في مدن ومناطق يتم اختيارها بدقة طبقاً لخطط وبرامج موسمية . ودوره في الإشراف على تصنيع الأدوية والعقاقير عديمة الفاعلية الطبية ، والغنية بالآثار الجانبية . 

بالإضافة إلى تحويله للمؤسسات العلاجية الحكومية إلى أماكن لتعذيب المرضى وإهانتهم والتنكيل بهم ، فيموتون كمداً إن لم تقض عليهم أمراضهم . وبذلك تنهار صحة العباد وتمضي حياتهم في ذهول بينما يفترس المرض أجسادهم ، فيأمن الحكم بذلك شرورهم ، وما قد تزرعه الصحة في نفوسهم من رغبة في التجبر والتمرد على أسيادهم .

ولقد ظل رجاله يلقون تحت قدميه واحداً بعد الآخر من المستشارين . فاستمع إلى مستشار التموين ومستشار العمل ومستشار العلاقات الأجنبية ومستشار الطاقة ومستشار الخزانة ومستشار الدفاع ومستشارة الشئون الإنسانية ومستشارة العلوم ومستشار العدل . فأفصح كل واحد منهم عن دوره في التنكيل بالعباد ، واستغفالهم ونهب أموالهم ، وتوريطهم في صراعات مزمنة مع بعضهم البعض تلهيهم عن أمور الحكم والدولة . وما إن انتهوا جميعاً حتى صاح فيهم :

إذا كان الإخلاص ديدنكم جميعاً في أدائكم لأدواركم ، فما تفسيركم لما حدث ؟ أين ذهب صولجاني ؟ وماسر هذا الصوت اللعين ؟ لابد أن فيكم خائناً ، ولن أهدأ حتى أعرفه . ومنذ الآن عليكم أن تعتبروا البلد في حالة حرب ، وأمامكم مهلة لتستعيدوا فيها الصولجان وتكشفوا لي سر هذا الصوت . وإلا فليس لكم عندب إلا جزاء الخيانة ، ومصادرة أموالكم وأملاككم ، وسبي نسائكم وقتل أولادكم ، والتعذيب ثم التعذيب ثم التعذيب .. حتى الموت .

* * * *

ترددت أبناء اجتماع الحاكم بمستشاريه في أرجاء البلد . فلقد أمر كتائب إعلامه بترويج الشائعات حول هذا الاجتماع لإثارة الذعر والفزع بين العباد ، فيتقدم منهم من لديه معلومة لتقديمها طواعية إلى أجهزة الأمن ، قبل أن تصل هي إليه فتستخرجها منه تحت وطأة التنكيل والتعذيب .

ولقد عم الفزع بالفعل كافة البقاع ، فالتزم الكثير من العباد منازلهم ، وأهملوا أعمالهم وحوطوا على أسرهم اتقاء لما لا تُحمد عقباه . 

ولقد نصحتني نورجان بأن ألزم مقري ولا أغادره ريثما تهدأ الأمور ، وينجلي هذا الغموض . ولكنني منذ أن اكتويت بعار الذل والمهانة وتلقفتني الجماهير عارياً أتعثر في ضعفي وهواني بذلك الميدان الفسيح ، وجدتني أشعر بأنني واحد من هؤلاء العباد ، تسعدني أفراحهم وترهقني أحزانهم ، ولذلك تعاظمت بداخلي الرغبة في أن أقترب منهم أكثر وأكثر ، لأستكشف أعماق أحوالهم وشئونهم ، فدور المشاهد العابر السائح لم يعد يكفيني ، ومشاعر الغريب اللامبالي لم تعد ترضيني . 

ولذلك عزمت على الخوض في لب هذا البلد ، لأرسم له صورة حقيقية بمسار خطواتي وتعدد محاوراتي ودقة مشاهداتي . ولقد غمرني شعور فياض بالرضا بعد توصلي لهذا القرار ، لأنني أيقنت أن ذلك سيضفي على رحلتي معنى ومغزى ، لم يدورا بخلدي عندما انتويت الانتقال إلى هذا العالم اللامرئي . فمادمت قبلت المغامرة فينبغى أن أعيشها ، ولكن كمهمة ورسالة وليس كمغامرة . فما عاينته هنا يبدو لي الآن أكبر بكثير ، من أن أتعامل معه ــ فقط ــ بمنطق المغامرة .

* * * *

الشياطين


لا يجمعهم ميثاق مكتوب أو مبادىء شفوية . ولا يحتويهم تنظيم معلن أو حتى جماعة سرية . ولا تميزهم ملامح متشابهة أو أزياء متماثلة . ولا ينتمون إلى أصول اجتماعية واحدة أو حتى إلى اتجاهات سياسية متقاربة . بل هم وباء مبعثر في الأنحاء والأرجاء ، ومتغلغل في الثنايا والأحشاء . وباء لا يؤكد ترابطه إلا سوء القصد وفساد النية ، قسوة القلب وسوداوية العقل ، غياب الضمير وتحجر المشاعر ، انعدام الأخلاق وانحطاط الشخصية . ولذلك فهم ينجذبون إلى بعضهم بغريزتهم الشيطانية . ولا يستطيع غيرهم أن ينفذ إليهم . فسواد صفحتهم يفضح بياض أية نقطة تندس بينهم حتى لو تحولت إلى الرمادية .

ولقد ابتلت بهم البلاد منذ القدم . فمنهم كان الحكام الذين نصبوا أنفسهم آلهة يُسبّح بحمدهم العباد وتُشيّد لهم المعابد وتُقام لهم الصلوات . 

ومنهم كان الكهنة الذين أضلوا العباد وأشاعوا بينهم الخزعبلات والخرافات ، بينما احتكروا العلوم وأسرارها لأنفسهم ودفنوها في صدورهم ، وجندوها فقط لخدمة أمجاد الحكام الآلهة . 

ومنهم كان العملاء الذين عاونوا الغزاة والمحتلين على مدى التاريخ ، وأكلوا على كل الموائد فمصمصوا العظام وتجرعوا كؤوس الدماء . ولم يرحموا أي شعب أسير . ومنهم الذين زيفوا العقيدة ونخروا بنيانها وعطلوا نماءها ، فحولوا الديانات إلى أحاجي وألغاز وأساطير وروايات ، وأوّلوا الأذكار المقدسة لصالح القياصرة والخلفاء والسلاطين والحكام فأفسدوا الدنيا وضيعوا الدين . 

وعلى مر العصور استمر ركبهم يسلم الراية السوداء من جيل إلى جيل . ولم يتهاونوا أبداً في اغتيال كل أصيل وكل جميل . فسيرتهم هي سيرة الحروب والمؤامرات والدسائس . وتاريخهم هو تاريخ الأطماع والاستبداد والمظالم . حتى أصبحوا ــ وباقتدار ــ وكلاء الشر في هذا العالم بدون منازع وبدون شريك .

ولقد تطورت وسائلهم في السيطرة على مقدرات العباد بتطور الأزمان والعصور . فمنذ فجر التاريخ حيث كانت جماعات الجن مشتتة في الأصقاع ، فيما يعرف تاريخيا باسم " عصور الصيد " ، ظهر نشاطهم المروع . ففي حين مارست جماعات الجن الأولى صيد الحيوانات والطيور والكائنات البحرية لتتغذى على لحومها وللاستفادة من جلودها وعظامها ، جنحت طائفة منهم إلى الراحة والكسل وتفتقت أذهان أفرادها الشيطانية عن فكرة بشعة ، تجنبهم مخاطر ومشاق اصطياد الحيوانات . وكانت هذه الفكرة هي اختطاف الأطفال وتناول لحومهم . وبذلك كانوا الرواد في ابتداع جريمة أكل لحوم الجن ومص دمائهم .

ودارت عجلة التاريخ ، واستقرت جماعات الجن حول الأنهار وأوديتها ، ومارست الزراعة وتربية الحيوانات والطيور ، وإقامة القرى والنجوع . ولكن برز الشياطين مرة أخرى بأفكارهم الشيطانية ، فاستسهلوا الإغارة على القرى لسرقة محاصيلها وقطعان حيواناتها . ثم تطورت جرائمهم إلى الاستيلاء على الأراضى وتسخير أهلها لزراعتها لهم . وما لبثت أراضيهم أن اتسعت ، فأغاروا على الأراضى المجاورة لخطف أهلها واستعبادهم لزراعة المساحات الشاسعة . وبذلك ابتدعوا نظام الرق والسخرة ، وفتحوا أبواب التاريخ لعصر الإقطاع . فحولوا العالم إلى إقطاعيات متناثرة يسكنها العبيد ويحكمها السادة . ولم يكن السادة إلا الشياطين في أثوابهم الموشاة اللامعة ، ولم يكن العبيد إلا باقي الجن في أسمالهم الممزقة الكالحة .

ولقد استمر رغم كل ذلك ركب الحضارة في التقدم ، مخترقاً قلاع وحصون الشياطين . فبدأ العلم يحل محل الخرافة ، والصناعة تأخذ الأولوية عن الزراعة . وبدت الصناعة للجن بمثابة طوق النجاة من عبودية الزراعة التي احتكرها الشياطين . فبدأت الصناعة تغزو العالم ، وتسحب العمال من المزارع إلى المصانع . وظهر المفكرون من الصالحين يروجون لأفكارهم حول الحرية والعدالة والمساواة ، والتي كانت بمثابة شرارة لتفجير الثورات في كثير من أرجاء عالم الجن ، سرعان ما نشأت على أثرها دول وممالك تُعلي من قيمة الحرية للأفراد بينما تقيد سلطات الحكام . ولكن بؤرة الصديد العفنة في جسد العالم ما فتأت تنثر سمومها . فبدأ الشياطين يستثمرون عوائد إقطاعياتهم في إنشاء المصانع التي تجذب العمال بارتفاع أجورها ، ثم سرعان ما يخفضون الأجور وينحدرون بظروف العمل ، حتى تحولت المصانع إلى ظل كئيب لمزارع العبيد . 

وعندئذ كانت الفرصة سانحة ليتدخل المفكرون من الشياطين لصياغة نظرية مضادة لنظرية الحرية . فبدأوا يروجون لأفكار جديدة حول ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والعدالة الاجتماعية وحكم الطبقات العاملة ، وغزت افكارهم عقول طبقات الجن الكادحة ، فاشتعلت الثورات العمالية في كثير من البلدان ، وظهرت على أثرها دول وجمهوريات تخضع لسلطان الشياطين ، وتصادر الملكيات الخاصة بدلاً من أن ترشد أساليب إدارتها ، وتسحق العباد لخدمة الدولة ، وتضع الحكام في مصاف الآلهة . وهكذا .. انقسم عالم الجن إلى قسمين أحدهما ترعى فيه الدولة الأفراد وتؤمن لهم حرياتهم ، وآخر يخدم فيه الأفراد الدولة وتراقب حرياتهم . 

ولئن أثبتت الأيام فشل القهر كنظام اقتصادي ، فإن القهر كنظام سياسي واجتماعي ما زال قائماً تحت رعاية ملايين من الشياطين .

* * * *

ولقد اكتوى هذا البلد بنيران كل تلك التجارب والعصور . ولكن زادت عليه موجات الاحتلال والغزو ، التي كانت تتلاحق عليه كأمواج البحر . فما إن يضعف الغزاة القابعون حتى يتصدى لهم للقضاء عليهم غزاة جدد يرثون مستعمراتهم . وبذلك ضم هذا البلد شياطين الداخل وشياطين الخارج . فكان مقراً على مدى العصور لكل شيطان رجيم . وكان هذا أوضح ما يكون في العصور الحديثة ، التي اعترفت فيها دول الأزمان الشمالية المتقدمة بنظرية الحرية ومارستها على مواطنيها ، بينما أرسلت الشياطين من أبنائها إلى دول أزمان الوسط والجنوب المتخلفة ، لكي يمارسوا شيطنتهم هناك ، فتتقي بذلك شرورهم في الداخل ، بينما تستفيد من عوائد شرورهم في الخارج .

ولعل ذلك الاجتماع لشياطين البلدان المختلفة والحضارات المتمايزة على هذه الأرض ، جعل لشياطين هذا البلد طابعاً خاصاً ربما لا يتكرر في بلد آخر من البلدان المحيطة . 

ولعل أول من التقط خيوط هذا الطابع الفريد وتعامل معه باقتدار ، ذلك الزعيم الذي يطلق عليه الصالحون " مستشار إبليس ". حيث كان أول زعيم وطني يحكم هذا البلد بعد موجات الغزو والاحتلال المتلاحقة . ولقد امتلك جاذبية خاصة لخداع الجماهير والضحك على ذقونها من خلال بيع الوهم لها . بينما مارس أشد ألوان التنكيل والتعذيب على مختلف الطوائف والفئات ، ولم ينج من بطشه حتى رفاقه من الشياطين . ورغم ذلك ظلت الجماهير المخدوعة مستغرقة في عسل سحره ، حتى استيقظوا ذات يوم على نبأ تدمير جيش البلاد واحتلال جزء من أراضيها . ولكنه خرج عليهم بسحر خداعه ، فحوّل الهزيمة العسكرية الكبيرة إلى مجرد عثرة حربية صغيرة ، وأقنعهم بأن الأراضي المحتلة مثلما كانت تيهاً للأعداء قديماً ، سيحولها إلى مقابر لهم في هذا الزمان . 

ولعله نجح في خداع العباد ولكنه فشل في خداع نفسه ، وسرعان ما مات كمداً مدحوراً بهزيمته ، وخرجت وراءه الجماهير الغفيرة المسحورة تبكي رحيل جلادها .

ولكنه كان رغم رحيله قد نجح في تأسيس مدرسة سياسية رائدة في أساليب الخداع السياسي . مدرسة حولت الحرية المعلنة إلى سجون لطوائف المعارضة ، والإعلام المستقل إلى كتائب للدعاية المغرضة ، والاقتصاد الوطني إلى زكيبة للأموال السائبة ، والأخلاق الفاضلة إلى شعارات لاتغادر اللافتات . 

ولعل الشياطين الوارثين قد وجدوا في تلك المدرسة نموذجاً فريداً للسياسات الجاهزة ، التي تردد على أسماع العباد ما يريدون ، بينما لا تطبق إلا ما يكرهون . وبذلك تأسس وترسخ حكم وسلطان الشياطين في هذا البلد .

*****


الأحوال


لم يصدق العباد التفسير الذي روجته كتائب إعلام الحاكم لمصدر الصوت وكنهه وطبيعته . فقد حشدت كتائب الإعلام كافة إمكانياتها ، وحاصرت العباد ليل نهار بتقارير علماء الطبيعة وحلقات الحوار العلمية والتنبؤات الفلكية ، والتي تؤكد جميعها بأن الصوت الهادر نتج عن انفجار أحد الأجرام السماوية البعيدة ، الأمر الذي أدى إلى تولد موجات تصادمية متتابعة انطلقت في كافة الاتجاهات حتى اصطدمت بعالم الجن . وبالتالى فالصوت ما هو إلا مجموعة ترددات انفجارية متتابعة لا تحمل أي معني ، ولكن تناغم المساحات الصوتية في الفراغ أضفى عليها جرساً موسيقياً علق في الآذان ، فترجمته بلا إرادية إلى أقرب الرموز الصوتية أو اللغوية المشابهة ... ورغم شدة الحصار الإعلامي ، إلا أن العباد كان يحلو لهم أن يرددوا هذا الصوت في جلساتهم الخاصة ، أو فيما بينهم وبين أنفسهم .

ولقد حل يوم مناسبة رياضية كبرى يحضرها الحاكم لتوزيع الجوائز والنياشين . ورغم نصح أجهزة الأمن له بعدم الحضور وسط هذا الحشد الغفير من الجماهير ، في ظل الظروف الراهنة للبلد . إلا إنه أصر على ضرورة الحضور ، وأمام إصراره طلب منه رجال الأمن الاستعانة بقوات إضافية من الجيش لمحاصرة الإستاد الرياضى الضخم لضمان كفاءة عملية التأمين .


وكانت المناسبة تبدأ بمجموعة من العروض الاستعراضية الرياضية التي تقوم بها مجموعات الشباب ، بعدها يتلو الحاكم كلمة للجماهير الحاضرة ، ثم يشرع في توزيع الجوائز والنياشين على الفرق الرياضية الفائزة .

بدأ الحاكم كلمته بالترحيب بالحاضرين ، ثم عرج إلى المن عليهم بإنجازاته وأمجاده التي لم يشهد البلد لها مثيلا إلا في ظل عهده وحكمه . 

وفجأة أثناء خطابه .. انطلق الصوت الهادر مجلجلاً مدمدماً .. ( هي كانت عزبة أبوك ) .... وران صمت مذهول على العباد بمجرد انقطاع الصوت . ولكن ما هي إلا لحظات حتى سرت همهمات بين الجموع الحاضرة ، سرعان ما تحولت إلى هتاف جماعي تلقائي يردد كلمات الصوت : هي كانت عزبة أبوك .. هي كانت عزبة أبوك . والتف رجال الأمن حول الحاكم الذي بوغت بعودة الصوت ، وفوجىء بهذا الغضب المدفون في أعماق الجماهير التي تمردت وتجرأت لتردد في وجهه هذا الهتاف المجنون . 

وخرجت الجماهير عن عقالها واستمرت في حماس محموم تردد هتافها وتلوح للمنصة بقبضاتها . وجذب رجال الأمن الحاكم الذي استولى عليه الذهول إلى خارج الإستاد الذي أخذ يتزلزل بفعل الهتافات المستمرة . وما أن شرع موكبه في التحرك مبتعداً عن المكان حتى أفاق من ذهوله ، فأمر الموكب بالتوقف ، ونزل إلى الساحة الواسعة المحيطة بالإستاد ووجه نظرات مكلومة إلى المبنى الضخم الذي كان يرتج مع مقاطع الهتافات المدوية . وفجأة صاح زاعقا :

فلتضرب قوات الجيش هؤلاء السناكيح ، صوبوا عليهم الأسلحة الثقيلة ، اقضوا عليهم جميعاً حتى يتوقف هذا الصوت .

وما هي إلا لحظات حتى اهتزت المنطقه بهدير قصف الأسلحة الثقيلة التي أخذت تقصف الإستاد بلا هوادة وبلا انقطاع ، حتى تحول في لحظات إلى أنقاض مختلطة بجثث الجماهير الحاشدة .. وسكت الهتاف ، بينما انبعث الغبار يغطى المنطقة وتخترقه ألسنة النيران الكثيفة متأججة ترعى في أجساد القتلى والمصابين .

وكان هو ما زال واقفاً ينظر إلى الدمار في غضب مخيف ، بينما تتردد بداخله أصداء الهتاف الذي أسكتته الأسلحة بحناجر القتلى منذ لحظات ، ولم تستطع أن تُسكت تردده بداخله .

*****



على هامش الأحوال


أعارتني نورجان كتاباً محظوراً من التداول . كانت سلطات الأمن قد صادرته فور توزيعه منذ عام . إلا أن بعض النسخ القليلة أفلتت من المصادرة وتم بيعها في سرية بأضعاف ثمنها .

" عبء الدولة " .... كان هذا هو عنوان الكتاب ، الذي كان في مجمله بحثاً علمياً رصيناً عن فكرة الدولة ، ككيان سياسي اقتصادي اجتماعي أخلاقي قانوني . وقد لاحظ الكاتب أن الدولة نشأت كنظام قهري ، نتج عن قوة وتسلط أحد الأفراد مما أدى إلى التفاف أقرانه من الأقوياء حوله ، واستيلائهم على مناطق واسعة من الأراضي باستخدام القوة وبسط النفوذ على سكانها الضعفاء . 

وبذلك نشأت الدولة كنظام يحكم الأقوياء فيه الضعفاء ، وتزداد فيه مواردها بواسطة القتال والاغتصاب . 

ومع حركة التاريخ تطورت الدولة من النظام القهري إلى النظام التعاقدي بين الحكومة والشعب ، والذي يلتزم فيه كل طرف بمجموعة من الواجبات لقاء مجموعة من الحقوق . ولذلك كان التطور التاريخي الطبيعي يفرض أن تصبح أقدم الدول هي أكثرها اقتراباً من النظام التعاقدي في صورته المثالية ، إلا أن المفارقة كانت تتمثل في أن أقدم الدول هي أسوأها . فقد لاحظ الكاتب أن الدول التي نشأت منذ فجر التاريخ هي التي مازالت حتى الآن أشد الدول قهرية ودموية وقمعية . 

لذا استنتج أن هذا يرجع إما إلى أسباب تاريخية خارجية تتمثل في وقوع معظم تلك الدول القديمة تحت قبضة القوى الاستعمارية لفترات طويلة ، مما صبغ نظام الدولة في تلك المناطق بصبغة تسلطية استبدادية ، أو يرجع إلى أسباب داخلية تتمثل في أن قِدَم نظام الدولة بتلك الدول ورسوخ بنيانها على مر التاريخ في نسيج الضمير القومي للأفراد ، أدى إلى تعاملهم معها كقدر لا يمكنهم مجرد التفكير في تغييره ، قدر وُجد بهذا الشكل القمعي ليبقى . 

وبهذا تظهر الدولة القهرية في العالم المعاصر كنموذج حفري للدولة الناشئة إبان فجر التاريخ بكل قمعيتها ودمويتها ، ولكن مع اختلاف في شكل المؤسسات التنظيمية التي تم اقتباسها من نظام الدولة التعاقدية المعاصرة .

واكتشف الكاتب أن النظام القهري للدولة استطاع الصمود في وجه التطور التاريخي ، لأنه أفرز نظامه الاقتصادي الخاص به ، والذي يقوم على أسلوب " النهب المنظم " . فحكومة الدولة القهرية تدير الاقتصاد الوطني بأسلوب الشركة التي تتكون من شريكين ، الشريك الأول هو الحكومة وتشارك في الشركة برأس المال والذي يتكون من كل أصول وموارد الدولة ، والشريك الثاني هو الشعب ويشارك في الشركة بالمجهود . 

وبذلك يتم توزيع الجانب الأكبر من الأرباح على الحكومة صاحبة رأس المال ، ويمثلها الحاكم وكبار المسئولين الحكوميين والمقربين والمنتفعين ، بينما يحصل أفراد الشعب على رواتب شهرية مقابل جهودهم . 

وبهذه الرؤية يصبح اقتصاد النهب المنظم هو المقابل الموضوعى لنظام الدولة القهرية ، التي يحكم الأقوياء فيها الضعفاء . فالأقوياء يحكمون فيسيطرون فيملكون ، والضعفاء هم المحكومون الأجراء الكادحون .

ويؤكد الكاتب أن اقتصاد النهب المنظم ليس مجرد طرحٍ نظري لايجد صداه في أرض الواقع . وإنما هو يمثل القوة المحركة التي أدت إلى عدم زوال الدولة القهرية من العالم ، وذلك لأنه ليس مجرد نهب وإنما هو نهب منظم تمارسه الدولة من خلال اضطلاعها بالحكم . فَقِدم الدولة القهرية أدى إلى تراكم خبرتها في مجال النهب ، ووجدت أن النهب العشوائي المكشوف يؤدي إلى وضع الدولة على حافة هاوية الإفلاس أو الثورة ، بما يؤدى حتماً إلى سقوطها . ولذلك كان أسلوب النهب المنظم من خلال الاضطلاع بمسئوليات الحكم هو خير السبل لتحقيق قدرٍ من التوازن يسمح باستمرار الدولة والنهب معاً . 

فمن خلال الاضطلاع بمسئوليات الإنفاق العام على كافة قطاعات الدولة ومرافقها ومؤسساتها ، يتقاضى كبار المسئولين حوافز جانبية تساوي مئات أضعاف مرتباتهم . ولعل أسلوب توزيع تلك الحوافز هو الذي كتب لها الاستمرار والتضخم . فكافة المسئولين الحكوميين ملتزمون بإعداد كشوف شهرية للحوافز تحت مسميات مختلفة تتفق وأنشطة المرفق الحكومي القائمين عليه . وتُدرج بهذه الكشوف أو الاستمارات أسماؤهم وأسماء كبار مساعديهم واسم المستشار المشرف على القطاع بالإضافة إلى اسم الحاكم ، والذي بمجرد وضع اسمه في الكشوف تكتسب الحصانة والشرعية ، وتنجو من أي مراجعة أو رقابة مالية . 

ويوضح الكاتب أن الرقم الذي يمثل عملية النهب المنظم يتراوح ما بين ١٠٪ إلى ٢٠٪ من إجمالي الإنفاق العام للدولة . وبذلك فإن اقتصاد النهب المنظم هو اقتصاد الناتج القومي فيه = صفر ، أو هو اقتصاد مدين . وبهذا تحول الإنفاق العام إلى المنجم الذي يفجر ذهباً للدولة القهرية ، ويجني من ورائه المسئولون الحكوميون ثروات طائلة بشكل شبه رسمي لا تناهضه المؤسسات الرقابية بالدولة .

ولعل مكمن الخطورة في اقتصاد النهب المنظم يتركز في أن شيوع ظاهرة ثراء القيادات الحكومية من مناصبها القيادية ، يؤدي إلى تغاضيها عن تفشي الفساد في باقي أجزاء الهرم الوظيفي ، من بعد القمة وحتى القاعدة ، ولذلك تمطر السماء فساداً في الدول التي تكون السيادة فيها لنظرية النهب المنظم . وتصبح العمولات والرشاوى والوساطات هي القواعد المحركة والحاكمة بكافة قطاعات المجتمع . 

كما تتركز خطورة النهب المنظم أيضاً في ارتباطه الوثيق بعملية التنمية ، من خلال التوسع في إنشاء وإقامة المؤسسات والقطاعات والمؤتمرات والمهرجانات الحكومية التي تضاف إلى البناء الإداري للدولة القهرية ، من أجل زيادة حصة المسئولين الحكوميين من النهب المنظم . وذلك دون الالتفات إلى مدى حاجة المجتمع إلى تلك الكيانات الجديدة ، أو حتى الاهتمام بمستوى أدائها في حالة احتىاج المجتمع إليها . 

وبالتالي تظهر الدولة القهرية ككيان حضاري خادع ، راسخ المظهر ولكنه أجوف المضمون . فكافة مؤسسات الدولة القهرية هي مجرد كيانات جوفاء لا تحقق الأهداف المرجوة من إنشائها ، إن لم تكن بالفعل تحقق عكسها . 

فمؤسسة العدالة تتحول في ظل الدولة القهرية إلى مؤسسة للعدل البطيء الأقرب إلى الظلم ، والمؤسسة التشريعية تتحول إلى غطاء قانوني للدولة القهرية لتقنين تجاوزاتها ، ومؤسسة التعليم تتحول إلى مؤسسة لترويج ثقافة الأمية ، ومؤسسة الإعلام إلى نافذة لتزييف وعي الشعب . وبهذا تفقد الدولة الهدف من وجودها ، وتصبح عبئاً على الشعب . فطالما تحولت المواطَنة إلى مجرد واجبات تكفل قمعية السلطة الالتزام بها ، بينما تغيب تماماً أبسط الحقوق ، فإن الدولة تصبح عبئاً ثقيلاً على الفرد ، وتصبح القبيلة البدائية أكثر ضمانا لحقوقه ، بينما هي أكثر تساهلاً في إلزامه بواجباته .

وقد قدم الكاتب رؤيته لمستقبل الدولة القهرية ، والتي لايتوقع زوالها إلا بأحد ثلاثة احتمالات :

ــ إندلاع صراع على السلطة بعد وفاة حاكم الدولة فجأة ، بما يؤدي إلى فوضى تعقبها ثورة شعبية عارمة تزيل الدولة القهرية من جذورها .

ــ إندلاع صراع على السلطة بعد وفاة الحاكم إثر مرض طويل ، يعقبه تفكك للدولة القهرية إلى عدة دويلات تحكمها زعامات متصارعة ، بما يؤدي إلى تدخل المجتمع الدولي لوقف الصراع و إقامة دولة تحررية .

ــ غزو قوة خارجية تحررية للدولة القهرية في حالة تهديدها لمصالحها المباشرة ، وتقويضها و إقامة نظام تحرري تابع على أنقاضها .

وفي الفصل الأخير من الكتاب يقدم الكاتب اختباراً عملياً لنظريته من خلال تطبيقها على اقتصاد هذا البلد . ويصل فيه إلى نتائج تتفق كثيراً ونظريته . 

ولكنه يصرح بأنه اكتشف أن أسلوب نهب الحاكم الحالى لأموال الدولة يعد أسلوباً فريداً يضيف بعداً جديداً إلى نظرية النهب المنظم . 

فلقد أضاف الحاكم إلى الوسائل التقليدية أسلوباً جديداً يقوم على إنشاء الشركات الوهمية التي تتعدد أنشطتها بتعدد أنشطة الدولة ، وتنفرد هذه الشركات دون غيرها بالحصول على حق تنفيذ كافة المشروعات العامة بالبلاد ، نظير تكاليف مبالغ فيها ، وذلك بتوجيهات سرية من الحاكم . ثم تقوم تلك الشركات الوهمية ببيع حقوق تنفيذ تلك المشروعات من الباطن إلى شركات أخرى هي في معظمها شركات المستشارين وأبنائهم ، والتي سرعان ما تبيع حقوق التنفيذ إلى شركات المقربين والمنتفعين ، والذين يبيعونها في نهاية المطاف إلى شركات المواطنين ، والتي تضطلع فعلاً بتنفيذ تلك المشروعات . 

وبذلك يضمن الحاكم بانتهاجه لهذا الأسلوب عدم تورطه في أية مخالفات مالية تلحق باسمه . لأن الأموال الناتجه عن الشركات الوهمية سرعان مايتم إيداعها بحسابات سرية في مصارف دول أجنبية ، نظير التنازل عن فوائد تلك الأموال لحكومات تلك الدول لاستخدامها لتغطية أي عجز في ميزانياتها ، وذلك ضماناً للمزيد من السرية لقاء هذه المنفعة المتبادلة . 

ويؤكد الكاتب بأنه قام بعملية استقصاء واسعة حتى يتأكد من صحة تلك الوقائع التي يسردها ، فوجد أن كافة الشركات التي تحصل على أصل حقوق تنفيذ المشروعات العامة ، يملكها أشخاص لاوجود لهم . ثم إنه تتبع تلك السلسلة التنازلية التي تمر بها عملية بيع حقوق التنفيذ حتى تصل إلى شركات المواطنين . فوجد بأن الحقيقة المؤكدة هي أن تلك الشركات الوهمية المملوكه لأشخاص لا وجود لهم ، لا يمكن أن تخضع إلا لملكية شخص واحد فقط ، هو الذي يجرؤ على الاستهانة بكافة القوانين .. وهو .. الحاكم .

.... ما إن انتهيت من هذا الكتاب حتى وجدتني مبهوراً ، وكأنني اكتشفت شيئا كنت أبحث عنه من زمن . فهذه الأفكار كان لها صدى عميق في عقلي ، جعلني أقتنع بها بمجرد قراءتها ، وكأنني طالعتها قبل ذلك ، أو عايشت ظروفاً وأحوالاً هي تفسرها .... فتُرى هل انحنى ظهري من قبل بعبء الدولة .. وانهارت أحلامي من قبل تحت سطوة النهب المنظم .. لا أدري ؟ ولكن إلى متى سأظل لا أدري ؟ وهل من الأفضل ان أعرف الجواب ؟ أم من الأفضل أن يظل السؤال بلا إجابة ؟ ... بلا إجابة.

* * *



(( ..... منا الصالحون ..... ))

سورة الجن ــ الآية ١١ 



الصالحون


هم الصالحون .. منهم الفرسان والشهداء والقديسون . ومنهم الأنبياء والرسل والصديقون . انطلق ركبهم منذ بدء الخليقة لينشروا الحب والخير والعدل والسلام ، فلم يقاتلوا إلا لصد هجوم ، ولم يعتدوا إلا لاسترداد حقوق . وما كانوا ثواراً إلا في وجه الطغاة ، وما كانوا أعواناً إلا في عهود العادلين . ولئن طالت عليهم عصور العذاب والاستبداد فمرجعهم كان هو الإيمان ، ولئن دانت لهم أزمان السلام والرخاء فمذهبهم كان هو الحرية والمساواة .... إنهم هدية السماء إلى هذا العالم ولو كره الشياطين .

هم الصالحون .. الذين بدأوا الدعوة الخالدة للإله الواحد الأحد ، بعدما ضل العباد وتفرقوا أشتاتاً . فمنهم من عبد الشمس ومن عبد القمر ، ومن عبد الأصنام ومن عبد النار ، ومن عبد الملوك والقياصرة ومن عبد الحيوانات والطيور . 

ولكن هم اختاروا الهدى وأشرقوا بنور ربهم ليبشروا بخالق كل شيء ، القائم على كل شيء ، القادر على كل شيء ، والذي ليس كمثله شيء . و قوبلت دعوتهم في البدء بالتجاهل ، ثم أحاط بهم بعد ذلك الاستهزاء ، وأمام إصرارهم ألمَّ بهم الإيذاء والتعذيب والتنكيل ، فمنهم من أُلقي في النار أو صُلِب على الأشجار ، أو رماه الفجار بالجنون ثم رجموه بالأحجار . 

ولكن ما لبثت الدعوة أن انتشرت بصلابة عزمهم وقوة إيمانهم ، وانتصرت عقيدة الواحد الأحد ، وتأسست القاعدة التي دعت لها كافة الرسالات السماوية ، وتحددت علاقة السماء بالعباد .

ومثلما كانوا رسل الواحد الأحد في مواجهة الوثنية والإلحاد . أصبحوا رسل الحرية في مواجهة وباء الرق والعبودية . 

فقاوموا تحوُّل عالم الجن إلى معسكر كبير للأسرى يساق فيه العباد بالسياط ليقوموا بأعمال الحيوانات بينما تكبلهم السلاسل والأغلال . وانطلقوا يجاهرون بالدعوة للحرية ، وبأن الله خلق العباد كلهم أحراراً لا يحق لبعضهم أن يمتلك البعض . وجابوا أقطار البلاد وأرجاءها ينشرون دعوتهم حتى تجمعت حولهم جحافل العبيد المدحورة ، وسرعان ما اشتعلت الثورات في مواجهة بطش السادة وتجار الرقيق ، وأشرقت شمس الحرية على العالم بعدما قدموا هم أرواحهم الطاهرة فداءً لهذا الفجر .

وتقدمت قافلة الحرية تغزو عالم الجن ، ولكن ما فائدة الحرية في ظل الاستبداد ؟ هكذا تساءل الصالحون ، فمع غياب العدل تصبح الحرية قيمة بلا معنى . فانبرى نفر منهم يدعو لإقامة العدل كفضيلة ، بينما انكب نفر آخر على وضع أسس وقواعد العدالة وتطبيقاتها ، فابتكروا نظرية القانون وأسسوا قاعدة احتكام العباد إلى تشريع معلن ينظم المعاملات والحقوق والواجبات . فوضعوا بذلك الأسس الأولى للدولة كبناء قانوني ، بعدما كانت مجرد بناء اجتماعي . 

ولكن مع دوران عجلة التاريخ ، أيقنوا بأن العدالة لا تنشر نفوذها في ظل مناخ التمييز والطبقية . حيث تصبح القوانين كخيوط العنكبوت تتعثر فيها الحشرات الضعيفة بينما تعصف بها الوحوش الكاسرة . لذلك حملوا شعلة الدعوة لمبدأ المساواة وتصادموا مع أرباب المصالح الطبقية والتمايزات العرقية . وأثمر التصادم بعد طول جهاد وتضحيات عن ميلاد فكرة الدستور كقانون سامي يعلو فوق كافة القوانين وتستمد منه أطر عملها ، وفق مبدأ عام يؤكد على المساواة بين كافة المواطنين .

وبهذه الخطوة وضع الصالحون عالم الجن على أول طريق النضج الحضاري ، ولكن كانت أمامهم بعد ذلك موقعة فاصلة ، كان النصر فيها يعني القفز بالعباد إلى قمة الرقي والسمو العقلي . فقد أعلنوا الحرب على الخرافة وأساطيرها ، وجابهوا سطوة امتلاكها للعقول والنفوس ، واتخاذها للأديان السماوية كغطاء لتبرير ما لا يقبله المنطق والعقل . 

ولقد كانت هذه أشد معاركهم ، فالعدو هنا متغلغل في نفوس العباد وأعماقهم ، ومواجهته هي مواجهة لعادات وموروثات وتقاليد تأصلت حتى باتت كيانات مقدسة لايداخلها الشك . لذلك كان سلاحهم الوحيد هو العلم ، فلقد آمنوا أن يقين العلم ونتائجه الملموسة وفوائده العملية ستكون بمثابة حائط منيع ، سينتصب بمرور الزمان في وجه أصنام الخرافة وكهنوتها . 

وبذلك أسسوا منارة للعقل أشعّت بنور العلم في كافة الأنحاء ، فانقلبت الحضارة من البدائية إلى الآلية . ومن مسايرة الطبيعة إلى السيطرة عليها . وأصبح الجن بواسطة سلطان العقل سادة العالم الذي يعيشون فيه بدون منازع وبدون شريك .

ولقد ظن الصالحون أن انتصار العقل سيضمن لعالم الجن الحفاظ على كافة مكتسباته التاريخية ، بدءاً من الإيمان ثم الحرية فالعدالة فالمساواة ، وبذلك يتحقق السلام الخالد للعباد . 

ولكن كان الشياطين دائماً بالمرصاد ، فحولوا العلم إلى أسلحة فتاكة للقتل والدمار ، فاشتعلت الحروب التي تبدأ ولا تنتهي ، وسالت الدماء وأُزهقت الأرواح وخُربت المدن . 

ونشط الصالحون وأقاموا المنظمات العالمية التي ترعى السلام بين الشعوب وتضمن استمراره . ولكن ظل السلام أملاً بعيد المنال ، فمقدرات العالم تتحكم بها في الخفاء أيادي الشياطين ، وكافة ما نجح الصالحون في تأسيسه وإقامته على مدى التاريخ ليوفر لهذا العالم في نهاية المطاف الأمن والسلام ، لم يسفر في نتيجته الأخيرة إلا عن الحروب والدمار . 

ويتساءل الصالحون دائماً في ذهول : هل كُتب على العالم أن يظل يسعى للسلام فلا يدركه ؟ وهل يتناقض السلام كغاية مع مسئولية الجن في الاختيار ؟ ولذلك سيظل العالم يتوق إلى السلام ويكد للوصول إليه في هذه الدنيا ، ولكنه لن يصل إليه إلا في الحياة الآخرة . 

ولعدم وصولهم حتى الآن إلى جواب ، فقد رفضت نفوسهم الطاهرة أن تتابع فصول المأساة في استسلام ، وآمنوا أن فشلهم في وقف القتال والحروب والمجازر بين العباد ، لايجب أن يثبط همتهم عن حماية البيئة والطبيعة من اعتداءات بني الجان ، فما معنى طموحهم إلى السلام المنشود لو تخرب هذا العالم وتشوهت بيئته وطبيعته الربانية ، وكيف يعيش العباد في سلام وهم يقتلون الحياة من حولهم في كل مكان . لذلك هم يحملون الآن عبء الدعوة إلى حماية البيئة والطبيعة من العدوان والتلوث . وهم موقنون بأن نجاحهم في إقرار السلام مع البيئة ربما يكون البداية لإقامة السلام بين العباد .

.... ولقد بزغت نجوم الصالحين في ظلام هذا البلد ، وعانقت خطواتهم ثراه ، وانطلقت في أرجائه دعوتهم حول الحرية والعدالة والمساواة والسلام . ولكن دائما سرعان ما كانت تأفل نجومهم وتذوي أفكارهم . وكأن هذه البقاع تدفن في أحشائها الأفكار الصالحة بينما تنمو وتزدهر على سطحها الضلالات والأباطيل . 

فلقد درج الشياطين منذ زمن على وأد أية حركة فكرية إصلاحية ، وكان مصير كافة المشروعات التنويرية الكمون على أرفف المكتبات العامة ، دون أية محاولة لترويجها وغرسها في نفوس العباد . كما سيطر الشياطين على كافة منابر الرأي والفكر والثقافة في هذا البلد ، فمسخوا الإيمان إلى قدرية خانعة ، والحرية إلى قهر متمكن ، والعدالة إلى استبداد طاغي ، والمساواة إلى تفرقة جائرة . 

ولئن انتصرت بذلك ثقافتهم ودولتهم ، فإن الصالحين رغم ذلك لم يفقدوا الإيمان بحلول عهد جديد ، ولذلك ما زالوا يحاولون نشر دعوتهم ومبادئهم وأفكارهم ، وإن كان صوتهم ــ حتى الآن ــ ما زال يذهب أدراج الرياح .

* * *


الأحوال


أصبح الصوت يطارد الحاكم ، أينما ذهب وأينما حل . ففي كافة جولاته صار الصوت يباغته كالصاعقة ، وفي لحظة دائماً ما تكون غير متوقعة ، مما حدا به إلى إلغائه لكافة تحركاته ، ومكوثه بقصره المشيد ريثما يتم اكتشاف سر هذه اللعنة التي لم تلحق إلا بعهده .

ولكن بتوالي الأيام حدث تطور خطير . فلقد بدأ الصوت يتردد في مدن متفرقة وقرى متعددة ، وأصبح لا يمر يوم إلا وتتواتر الأنباء عن انطلاق الصوت في بقعة ما . وأدرك الحاكم أن الأمر لا يمكن السكوت عليه ، وإلا أفلتت الأمور من بين يديه واشتعلت الثورة بين العباد . فأسرع بإعلان حالة الطواريء وفرض حظر التجول من الغروب حتى الشروق على كافة أنحاء البلاد ، وأمر بنزول الجيش بكافة تسليحاته إلى الحدود بين المدن والمقاطعات والأحياء وعلى الطرق السريعة ، بالإضافة إلى التمركز بالميادين الرئيسية وحول المنشآت الحيوية . 

وتحولت البلاد بين عشية وضحاها إلى ثكنة عسكرية معالمها الأسلحة الثقيلة التي تتناثر هنا وهناك ، حتى بات معظم العباد لايخرجون من ديارهم خشية عدم ضمان العودة إليها مرة أخرى . حيث توسعت أجهزة الأمن في عمليات القبض العشوائي أملاً في التوصل إلى أية معلومة ، وبدأت تطارد بشراسة مجموعات الجائرين داخل كافة المدن ، حتى هج من لم يسقط منهم إلى الأطراف النائية والجبال الوعرة للاختباء فيها . 

وقد تكدست السجون بمن فيها حتى لم يعد بها مكان لموطيء قدم ، فأشار أحد الشياطين على الحاكم بإعادة إحياء تقليد سليمان النبي ملك الإنس والجن ، بحبس المقبوض عليهم في القماقم المختومة بخاتم الحكم ، فيتغلب بذلك على مشكلة تكدس السجون ، ويثير الفزع في نفوس العباد من خلال إحياء تلك العقوبة الرادعة ، فيقرون بما يكتمون . 

ولكن رغم ذلك ظل الصوت يطارد الحاكم ، وما لبث أن بدأ ينطلق حول قصره المشيد تارة أثناء النوم وأخرى أثناء اليقظة ، أو أثناء جلسات جنونه الجنسي أو حين قضائه لحاجته . وبات هذا الشيطان العتيد على شفا الانهيار ، فأصدر أمراً باستنفار كافة قوات الدفاع الجوي ، ومنحها تفويضاً مفتوحاً بإطلاق قذائفها في أي وقت على مصدر الصوت أثناء انطلاقه . 

لذلك قام كبار الفنيين العسكريين بتسجيل الصوت أثناء تردده على آلات معينه ، وتلقينه لأجهزة أخرى يتم ربطها بأسلحة الدفاع الجوي ، فما إن يتردد الصوت حتى تتعرف عليه تلك الأجهزة ، فتوجه إشارة فورية للاسلحة فتعمل آلياً وتطلق قذائفها نحو مصدره .

وفوجىء العباد ذات يوم بغليان السماء وهي تشتعل بوابل من القذائف أثناء انطلاق الصوت . ولكن الكارثة أن القذائف لم تكن تصيب شيئاً قط ، وكانت تستمر في انطلاقها حتى تسقط في إحدى المناطق النائية أو على أحد الأحياء المكتظة بالسكان . 

وعم الذعر والفزع بين العباد ، وأصبحوا لايعرفون إلى أين يفرون ، فالموت ينقض عليهم كالصاعقة من السماء . لذلك قام سكان كل منزل بعمل ورديات فيما بينهم ، يتكفل فيها أحدهم بالمكوث خارج المنزل أو على أعلى سطحه لمراقبة السماء ، وتحذيرهم قبل انقضاض القذائف عليهم . ورغم كثرة المنازل التي انهارت والعباد الذين حصدتهم القذائف ، فإن الحاكم أمر بالاستمرار في قصف مصدر الصوت عند انطلاقه ، حتى كان اليوم المشهود ... 

فلقد سقطت القذائف الطائشة على مقر إقامة الابن الأكبر للحاكم وقضت عليه وعلى زوجته وأطفالهما . وطار النبأ إلى الحاكم الذي تلقاه أثناء جلوسه على العرش ، فتجمدت نظراته وتصلبت ملامحه وتقوض بنيانه ، كأنما غار جسده داخل عرشه ، وظل على هذه الحال بضعة ساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ، حتى ثاب إلى رشده ، فأمر بإلغاء تفويضه لقوات الدفاع الجوي بقصف مصدر الصوت ، وبإلقاء القبض على قائد قوات الدفاع الجوي وضباط وجنود الوحدة التي أصابت مقر ولده ، ودفنهم جميعاً أحياءً في نفس القبر الذي سيضم جثمان ولده وزوجته وأطفالهما .

* * * *

اخترقت الجنازة المهيبة الطريق من قصر الحاكم إلى النصب الشامخ الذي شيده لتخليد عهده ، ولاتخاذه مدفناً لجثمانه بعد موته . وتقدم الجنازة مكبلاً بالأصفاد قائد الدفاع الجوي وضباطه وجنوده المتهمين وهم يتعثرون في الأغلال ، وتنهال عليهم السياط من حراسهم الأشداء . يتلوهم الجثمان تحمله عفاريت الجن في الهواء ، وخلفه سار الحاكم وسط مستشاريه ، ووراءهم جحافل الشياطين والمقربين والمنتفعين بنسائهم وأولادهم ، بينما وقفت على جانبي الطريق الطويل جموع العباد المحتشدة في ثبات وسكون كالأصنام ، يحجزهم عن نهر الطريق صف طويل من رجال الأمن حاملي الهراوات والأسلحة .

وعند وصول موكب الجنازة إلى النصب ، تقدم الحاكم إلى القبر ، وقام خدم المقبرة برفع حجر كبير منحوتٍ عليه شعار الحكم ، فانكشفت فتحة القبر مظلمة باردة تأوي بداخلها المجهول . ووسط دهشة الحضور أفلتت نهنهة من الحاكم وسالت دموعه على خديه ، وأمر من خلال دموعه ببدء مراسم الدفن بإلقاء المتهمين أحياءً داخل القبر ، ثم الشروع في تسجية جثمان ولده الغالي في مثواه الأخير . 

فأحاط الحراس بالمتهمين الذين ركبهم التشنج والرعب واقتادوهم عنوة إلى حافة القبر ... وفجأة .... انفجر الصوت مزمجراً راعداً صادراً من داخل ظلام فتحة القبر :

... هي كانت عزبة أبوك ...

وسقط الحاكم وكافة المحيطين به مفجوعين من هول المباغتة على الأرض ، وعم الذعر والهلع ، وسادت الفوضى جموع الحاضرين ، وانطلق كل منهم فاراً إلى أى اتجاه . وأخذ الحاكم يتلوى على الأرض ويخبط عليها بيديه وقدميه كأنما أصابه صرع ، ثم انتفض قائماً وأخذ يشيح بيديه في الهواء ويركل بقدميه الفراغ ، ويصيح وهو يترنح :

لا ليست عزبة أبي .. بل هي عزبتي أنا .. أنا أعظم من حكم هذا البلد . هي عزبتي أنا .. أملكها بكل أراضيها .. ومن عليها من عباد ونبات وحيوان . ولن تفلت مني أيها الصوت .. سأقلب كل حجر .. وأنسف كل جبل .. وأفتش كل جُحر .. حتى أجدك أيها الصوت . هي عزبتي أنا .. أنا وحدي .. ولن تسلب مني عزبتي .. لن تسلب مني عزبتي …..

واستمر يهلل ويناطح في الفراغ حتى سقط مهدوداً في مكانه ، تعلوه سماء مكفهرة قاتمة بلون الغضب ، وبجواره جثت الموتى في أكفانها والمحكوم عليهم بالدفن أحياءً في أغلالهم ، وقبر مظلم فاغر فاه في وجه السماء ….


على هامش الأحوال


أُعلن الحداد على نجل الحاكم لمدة ثلاثين يوماً . مع استمرار حظر التجول وانتشار قوات الجيش في أنحاء البلد . 

ولقد نصحتني نورجان بضرورة اكتفائي بهذا القدر من رحلتي معها ، والعودة سريعاً إلى عالمي البشري ، فالأوضاع تتوتر يوماً بعد آخر ، ولا يمكن التنبؤ بما سيسفر عنه الغد ، وهي تخشى أن تطولني إحدى عمليات القبض العشوائي فينكشف أمري وأمرها ، وينالنا مالا نتخيل من التنكيل والعذاب .

ولكنني واجهتها بتصميمي على البقاء حتى يمكنني الإحاطة بكل ما أريد معرفته عن هذا العالم وهذا البلد . وطالما التزمنا بالحيطة والحذر فلن يصيبنا إلا ما قُدّر لنا . فوافقتْ نورجان على مضض ، وأخبرتني بأنها نجحت في ترتيب موعدٍ لي مع أحد كبار الصالحين ، وسيستقبلني باعتباري مراسلاً إعلامياً أجنبياً أقوم بإعداد كتاب عن الأوضاع في هذا الجزء من العالم ، وبذلك يمكنني من خلال الحوار معه تكوين فكرة عامة عن الأحوال من وجهة نظر الصالحين .

وعندما حان الموعد ذهبنا معاً ، واستقبلنا الرجل الذي لم تخف جدية ملامحه .. تواضعه ، وصفاءه الروحى النابع من توافق عميق مع النفس . ولقد امتد حواري معه حوالي الساعتين قدم لي فيهما رؤية عقلانية رصينة أضافت الكثير إلى مداركي حول هذا العالم وأحواله وشئونه .

بدأ الحوار بتعبير الرجل عن أسفه وقلقه لغرق عالم الجن الآن في التفاصيل والجزئيات مع الإغفال التام للعموميات و الكليات ، مما أدى إلى أن تتهاوى يوماً بعد آخر القدرة على التفاهم والتواصل ، طالما أن العالم فقد الإطار الإدراكي الفلسفي الجامع وسقط في شبكة الرؤى الجزئية المتعارضة .

وأبدى الرجل دهشته من إفساد العباد للأديان السماوية ، ودفعها إلى ساحة الجزئيات التفصيلية بكل خلافاتها وصراعاتها ، بالرغم من أن الأديان السماوية في صورتها النقية هي التراث العالمي الوحيد الذي يتميز بالاتساق والتكامل والشمولية . فالراصد لتاريخ الأديان السماوية يلحظ أن أتباع كل ديانة استنبطوا منها فروعاً عديدة ، حتى غطت تلك الفروع الكثيفة بمرور الزمن على الأصل الإلهي النقي ، ثم قاموا بتجميع تلك الفروع حتى شكلت في مجملها شبه ديانة موازية للديانة الأصلية. 

فالديانة السماوية الأولى تفرع عنها ما أطلقوا عليه " التلمود " ، ففقدت بذلك المَعين الإلهي الطاهر الذي نبعت منه وصاياها العشر ، وتحولت إلى ديانة منغلقة تقصر رحمتها وخيرها على أتباعها بينما تحض على احتقار واستغلال باقي العباد .

وهبطت الديانة السماوية الثانية لتعالج الغطرسة التي تشبعت بها نفوس أصحاب الديانة الأولى . فدعت إلى المحبة والتسامح والرحمة ، لكن تفرع عنها ما أطلقوا عليه " اللاهوت " ، ففقدت بذلك بساطتها وفطرتها ، وتحولت إلى ديانة معقدة متشددة ، تطلب من أتباعها أن يتجاهلوا ملكوت الدنيا من أجل ملكوت السماء ، فتجاوزتها بذلك الأحداث لتعارض أعبائها الإيمانية مع مطالب الحياة . وبذلك انفصل الدين عن الدنيا ، وانتصر الواقع على المثال .

وهبطت الديانة السماوية الأخيرة لتوازن بين الدنيا وبين الدين ، وذلك من خلال تعاليم تتميز بالبساطة واليسر ، تكفل الله بحفظها في أذكاره المقدسة ، ودعت إلى تعمير الدنيا والتعارف بين شعوبها ، بالأعمال والعلاقات الصالحة التي ترضى عنها السماء . لكن تفرع عنها ما أطلقوا عليه " الفقه " ، والذي حفل بالمذاهب المتعارضة والتأويلات المتعسفة المعسرة ، فتوارت الأذكار الإلهية المقدسة وحلت محلها الفتاوى والروايات ، و انزوى ما تكفل الله بحفظه خلف ما تكفل بحفظه العباد .

ولعل المحلل للأوضاع العالمية الراهنة يجد بأن أتباع الديانة الأولى بغطرستهم ، واستباحتهم لأوطان وأموال الآخرين ، تمكنوا من التحكم في الاقتصاد العالمي من خلال تحقيق تراكم مالي على مر العصور ، نتج من خلال القدرة على الاستغلال والاستنزاف دون أي وازع من ضمير ، وتحت غطاء ديني تبرره تعاليم التلمود . 

كما أن الديانة الثانية لتشدد لاهوتها تجاهله أتباعها ، وأقاموا حضارة معاصرة تتناقض تماماً مع كافة تعاليمه ، حضارة تؤمن بالفردية والحرية والعملية والمادية والعلم ، ولكنها تفتقر كثيراً إلى دفء الإيمان .

أما أتباع الديانة الأخيرة فقد أقاموا في البدء حضارة عارمة ، ولكنهم بمرور الزمن انحدروا إلى حالة مزرية وأزمة مستحكمة تتناقض تماماً مع قدرة دينهم على إنشاء حضارة متوازنة تجمع بين الدنيا والدين . وأمام هذا التناقض انكب الرجل على دراسة التطور التاريخي للديانة السماوية الأخيرة ، حتى استطاع التوصل إلى نتائج هامة تضع تفسيراً لأزمة الفقر والتخلف التي تحيط بأتباعها وشعوبها . 

فقد رصد من خلال تتبعه لتاريخ أمة الديانة السماوية الأخيرة مرورها " بثلاث موجات متتابعة " ، تشكلت من خلال الصراع أو الاتحاد ما بين نمط الفكر ونمط الفعل ، أو كما أسماه نمط " الوعي " مقابل نمط " الإرادة ".

كانت الموجة الأولى هي موجة الوعي والإرادة في تاريخ تلك الأمة ، وبدأت في العهود الأولى لتلك الديانة ، عهود الحكام الراشدين . فقد أدت ظروف فتوة ونشأة الرسالة السماوية إلى الربط الوثيق ما بين المعتقد الديني والمسار الدنيوي . حيث تمثل المعتقد الديني في وهج تعاليم الأذكار المقدسة التي هبطت تباعاً على عباد عاينوا ذلك ، فتشكل وعيهم بتعاليم الوحب الإلهي وأقوال الرسول ، بينما تمثل المسار الدنيوي في زخم الفتوحات العسكرية التي جعلت لكل مشارك فيها قدراً من الاعتراف بحقه في صنع القرار ، لأن سيفه شارك وما زال يشارك في إقامة تلك الدولة الناشئة . لقد ارتبط في هذا العهد النقي الإيمان بالفتح والدين بالدنيا . وبذلك تميزت تلك الموجة باتحاد نمطي الوعي والإرادة .

وبدأت الموجة الثانية ــ موجة الوعي بلا إرادة ــ مع توقف الفتوحات العسكرية ، وظهور عهد دولة النعمة والرفاهية ، وحدوث حالة من الاستقرار السياسي . حيث أضحى الأفراد في حاجة إلى سلطة فردية متحكمة تحمل عنهم عناء المشاركة في اتخاذ القرار ، لتتاح لهم فرصة التنعم برغد العيش والقدرة على استخدام ملكة العقل التي تتألق في ظل التفرغ والاستقرار . فبدأ يأفل تدريجياً نجم الفعل وينسحب إلى قبضة الحكام ، وبقى يلمع وحيداً في سماء الأمة نجم الفكر . فازدهرت حركة الاجتهاد والعلوم والفنون ، في حين تنازلت الأمة عن إرادتها للحاكم الفرد .

وكان هذا إيذاناً ببدء الموجة الثالثة ، موجة اللاوعي واللاإرادة . فلطالما أثبتت دروس التاريخ بأن تركز الفعل بيد سلطة فردية يجعلها سريعاً ما تشتط وتضيق بالفكر المسئول المتجرد . لذلك بدأت المواجهة مستترة أولاً ، ثم معلنة بعد ذلك ، حتى توقفت إلى غير رجعة حركة الاجتهاد وتدهورت العلوم والفنون . وأصبح الفقهاء والعلماء في خدمة الخلافة السلطوية الفردية الوراثية . 

ومنذئذ صارت أمة الديانة السماوية الأخيرة تحكمها إرادة الحاكم ويصيغ وعيها فكر الممالئين للسلطة ، أمة مشاهدة متفرجة .

ولذلك فإن التحليل العلمي للأوضاع الراهنة يؤكد بأن الموجة الرابعة المتوقعة لن تخرج عن أحد ثلاثة احتمالات :

ــ موجة تسترد فيها الأمة وعيها .

ــ أو موجة تسترد فيها الأمة إرادتها .

ــ أو موجة تسترد فيها الأمة إرادتها ووعيها معاً .

والغريب أن كافة المحاولات التنويرية لتحقيق الاحتمال الأول لم تخرج عن كونها محاولات فردية ماتت بموت أصحابها ، ولم تلق أى دفع أو تنمية من السلطة ، لتأسيس قاعدة تنويرية للأجيال القادمة تمكنها من امتلاك وعيها ، بل على العكس لاقت من العسف والمطاردة ما جعلها تنطفيء وتنزوي داخل صدور أصحابها ، دون أية محاولة لنشرها لتخصيب التربة الفكرية القاحلة . 

ولهذا لم تتهيأ التربة إلا للاحتمال الثاني وهو أن تسترد الأمة إرادتها ، وهذا ما يؤكده الآن انتشار تنظيمات الجائرين في كافة بلدان الديانة الأخيرة . 

ولكن لأن تلك الإرادة تتخلق في ظل أمة تفتقد فكرها ووعيها ، فإنها لا تطرح إلا أسهل الخيارات الفكرية ــ كغطاء لها ــ وهو فكر " التكفير " . فالفكر الضعيف لا يسانده إلا فعل قوي عنيف متفجر متطرف ، حتى يتوازن معتنقو ذلك الفكر مع أنفسهم . لذلك بزغ تيار العنف والتطرف الذي يمثله الجائرون ، فأمة بلا إرادة وبلا فكر ، لاتنتج إلا فكراً مريضاً أو فعلاً عنيفاً أو الاثنين معاً . ولن تنجو أمة الديانة الأخيرة من الفقر والتخلف ، طالما ظل الشياطين يحكمونها ، وطالما ظل الجائرون هم أول الوارثين .

.... وعندما أنهى الرجل حديثه ، لمح الوجوم البادي على وجهينا . فاعترف لنا بأن الوجوم هو حقاً الرد الوحيد المناسب على هذا الواقع المرير ، ولكن .. لكن الآن فقط .. ظهر على الساحة متغير جديد . وربما يكون هو السبيل الوحيد الباقي لتحقيق الاحتمال الثالث في أن تمتلك الأمة وعيها وإرادتها معاً مرة أخرى . وهذا المتغير الجديد هو .. الصوت .. نعم الصوت ، إنه صوت السماء .. السماء التي تتدخل دائماً عندما يتبدد كل أمل وكل رجاء ، إنه صوت السماء يدعونا نحن العباد لنتدخل ونواجه ونثور . ولقد قررنا نحن " الصالحين " ، أن نبدأ في حشد العباد وتحريضهم ، فالمواجهة لم يعد منها مناص ، وإذا لم نتبع إشارة السماء ، فقد حق علينا إذن العذاب إلى يوم الحساب .

* * *


((  ..... ومنا القاسطون * ..... ))

سورة الجن ــ الآية ١٤ 

* القاسطون : جمع قاسط أي جائر ، وهو من يجور ويحيد عن الحق .


الجائرون


رفضوا منذ القدم أن يضيئوا شمعة ، وقرروا أن يقاتلوا أو يعتزلوا الظلام . هذه هي شريعتهم ، وهذا هو منهجهم . وهم بذلك خير مثل لمحنة الجن في مواجهة فتنة الاختيار ، ومعترك الاختبار ، ومسئولية القرار .

كما أنهم ظاهرة خلافية وإشكالية مزمنة في تاريخ العالم . فقد ترفضهم العاطفة حينما يقبلهم العقل ، وقد تساندهم المشاعر بينما يعاديهم المنطق . ولطالما مجدتهم بعض العصور كشهداء وأولياء ، ولعنتهم عصور أخرى كسفاحين وأفاقين . 

إنهم الجزاء العادل للشياطين .. والنقيض الأسود للصالحين .. والمستقبل المجهول للسناكيح .

وخطورتهم تكمن في أنهم نصبوا أنفسهم دائما كقضاة عندما كانوا هم الضحايا . وترافعوا دائماً كمدعين عندما كانوا هم المتهمون . فقد اعتادوا خلط الأوراق ، وقلب الموائد . لأن العنف دائماً كان هو مذهبهم ، والقسوة هي حصنهم العتيد ، سواء كان ذلك على أنفسهم أم على الآخرين .

إنهم قبضة الإرادة ولكن بلا وعي وبلا فكر . وبطش القوة ولكن بلا رحمة و بلا شفقة . ولذلك فهم يعرفون متى يبدأون ولكنهم لا يدركون أبداً متى ينتهون ، نقيضهم في ذلك الصالحون الذين لا يعرفون متى ينطلقون ولكنهم يعلمون يقيناً متى يتوقفون .

إنهم أهل التصوف المسافرون إلى الله هرباً من زخرف الدنيا وزينتها . وهم حملة السلاح ــ المواجهون لجبروت السلطة ــ طلباً لمناصب الحكم وفتنتها . وفي هذا وذاك .. هم الجائرون . لأنهم في تصوفهم جاروا على أنفسهم فحرَّموا عليها ما أحله الله ، وجاروا على العباد فطالبوهم بما لا يطيقون . بينما هم في حملهم للسلاح جاروا على أنفسهم فحللوا إزهاق النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، وجاروا على العباد فأخذوهم ــ رغم كونهم ضحايا ــ بجريرة المستبدين .

وعلى مدى تاريخهم تتابع ظهورهم من كافة الطبقات . ففي حين ظهروا قديماً كمتصوفة من وسط الطبقات الدنيا ، وانتقلوا بمرور الزمن إلى الطبقات الوسطى ، حتى اكتمل الآن ظهورهم في طبقات الارستقراطيين . فإنهم برزوا كحملة سلاح من وسط الطبقات العليا ، وبمرور الزمن تخرجوا من صفوف الطبقات الوسطى ، حتى صارت الآن تنبت جذورهم في طبقات الفقراء والمساكين . وبذلك .. هم في هذا الزمان ، إما الأثرياء المتصوفة ، أو الفقراء المسلحون .

ولعل المتتبع لمشوارهم تتملكه الحيرة من أمرهم . فكيف لاتتعلق النفس بمن يذوبون في الذات العليا ويهجرون الدنيا ويصيرون من أهل الباطن ! وكيف لا يخشع القلب لمن يدفعون حياتهم ثمناً لقاء مبادئهم ، فيفجروا أنفسهم ويبذلوا أرواحهم من أجل الإيمان بأهدافهم !

ولاشك بأن الحيرة في أمرهم تتعاظم ، سواءً في ظل عصور الاستبداد حيث يظهرون بتمردهم المسلح في ثوب المناضلين ، أو في ظل عهود الرفاهية حيث يبدون بزهدهم في الدنيا في صورة الأتقياء الطاهرين . 

ولكن قراءة تاريخهم بتعمق وتجرد تثبت بأن الحيرة في أمرهم ما هي إلا خديعة . لأنهم ما إن كانوا يصلون إلى السلطة حتى ينقلبوا إلى مستشارين لإبليس ويفرخون في عهودهم أجيالاً من الشياطين . أو ما إن كان العباد يلتفون حولهم لزهدهم إلا وركبتهم أوهام النبوة وتقوّلوا ببشارات ونذر المرسلين .

ولئن اختلط الأمر على البعض ، لأن النتائج في تاريخ الجائرين تتناقض مع المعطيات . فإن الحقيقة لا تلبث أن تظهر جلية . فالذين آمنوا بالعنف والقسوة كوسيلة لن تكون غايتهم أبداً رحمة العباد . فانتهاج العنف والدموية للوصول للسلطة يورث الإيمان بالبطش كوسيلة لإسكات المعارضين والمخالفين ، ولذلك يثبت التاريخ بأنه لا يوجد أسوأ ممن وصلوا للسلطة على جثث الآخرين حتى إن كانوا شياطين ، فالعنف لم يثمر أبداً إلا العنف .

أيضاً .. فإن من اعتنقوا القسوة على النفس كوسيلة للزهد في الدنيا ، لن تكون جائزتهم أبداً رضى الله ، لأن اعتزال الدنيا كالانتحار ، موت قبل الأوان ، وفراق بلا استئذان ، وهروب من شهوة الأرض إلى فتنة السماء ، وكلاهما سواء ، الإفراط في أحدهما ، لن يكون آخره إلا .. الضلال .. أو الشتات .

إنهم .. وبكل الأسف .. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .. فكانوا الأخسرين أعمالاً .. وكان كيدهم في تضليل .

* * * *

ولقد اشتدت شوكة الجائرين في هذا البلد ، لأن السلطة كانت تستخدمهم دائما بمكر وبطريقة غير مباشرة لتحقيق أهدافها . فدائما ما كانت تغض الطرف عن تنامي واستشراء طرق أهل الباطن من المتصوفة فلا تعارض موالدهم واجتماعاتهم وطقوسهم وشطحاتهم ، طمعاً في التفاف المزيد من السناكيح حولهم ، فيهجرون الدنيا ويذهلون عن مسئولياتها ، ويسافرون إلى عالم الأسرار الخفية والآيات العلوية . ويراود الشياطين الأمل في أن يأتي يوم يتحول فيه كل السناكيح إلى زمرة من المريدين الزاهدين التاركين للدنيا بغنائمها وكنوزها لمن هم يعشقونها .

وعلى الجانب الآخر كانت علاقة السلطة بفصائل وجماعات الجائرين المسلحة تجمع ما بين الحرب المعلنة والتحالف المستتر ، فقد دأب الشياطين على التحالف مع بعض الفصائل للقضاء على الفصائل الأخرى ، فلطالما دعموا الفصائل العلمانية لقتال الفصائل الدينية ، أو ساندوا الجماعات الدينية لمطاردة الجماعات العلمانية ، وظلت هذه السياسة ناجحة إلى زمن قريب ، حتى انقلبت الآية وأفلت الزمام ، وأدت المتاجرة الماكرة برداء الدين إلى أزمة مستعصية ، ففي ظل الحجر على كافة دعاوى وأفكار الصالحين ، والملاحقة المستميتة لجماعات الجائرين العلمانية ، خلت الساحة ودانت لجماعات الجائرين الدينية ، فنمت وترعرعت وأضحت الكابوس المروع لأحلام الشياطين الدموية ، والقوة الوحيدة المهددة لاستمرار استيلائهم على السلطة أو بقائهم على وجه هذه الدنيا .

ويشعر الصالحون في هذا البلد بالأسى ، فكيف تنحدر الأحوال بحيث لا يكون للشياطين من خلف إلا الجائرون ! 

بينما لا يخفي السناكيح شماتتهم من المصير الأسود الذي ينتظر الشياطين على أيدي الجائرين . فلقد عم الفساد وفاحت رائحته ، وطغى الاستبداد وتأصلت قاعدته ، حتى أصبحت مواجهة المجهول أفضل من هذا السواد العقيم . حتى إن كان هذا المجهول .. هو .. " الجائرون " .

* * * *


الأحوال


نشط الصالحون . وانتشروا في أرجاء البلد ، يروجون في سريه لدعوتهم بأن الصوت هو : ( صوت السماء ) . وأخذوا يجمعون العباد حولهم ، ويحثونهم على ضرورة الثورة والتصدي لجبروت الشياطين . ولقد إلتفّت حولهم أعداد قليلة ، فالخوف سكن وعشش في النفوس ، والذعر امتلك الخلق حتى صاروا يتلفتون حولهم . 

ولكن ذلك لم يثن الصالحين عن ضرورة بدء المواجهة بأى جمع مهما كان محدوداً ، لأنهم آمنوا بأن الشرارة الأولى لن تنطلق أبداً مالم تنطلق في خضم هذه الأحداث ، وبمرور الوقت ستسري نيران الغضب رويداً رويداً في أرجاء البلد ، فيبدأ العباد في التجرؤ على خوفهم وتنمو بذرة الثورة ، وتصبح خشية الموت دافعاً أكبر للمواجهة بعدما كانت مصدراً للنكوص ، وعندئذ سيتأجج ويندلع طوفان الجماهير فيقتلع دولة الشياطين من جذورها ، وتشرق شمس الحق على أنقاض ليل الباطل .

وأثناء ذلك . سرى في البلاد نبأ عزل الحاكم لكل من مستشار الأمن ومستشار الفكر والفنون ، وتوليه هو شخصياً لهذين المنصبين ، والحكم على المستشارين المعزولين بعقوبة الموت ضرباً في الميدان الفسيح جزاء لإهمالهما الجسيم ، وقد تحدد يوم المولد النبوي موعداً لتنفيذ الحكم .

وتلقف الصالحون النبأ ، ووجدوا الفرصة سانحة لبدء المواجهة في هذا اليوم ، وفي ساحة تنفيذ الحكم ، حيث سيحتشد العباد ، ويصعب على قوات الأمن ملاحقة جماعتهم وسط هذا الحشد الغفير .

* * * *

وفي يوم المولد . غص الميدان الفسيح بالجماهير ، وأقيمت في الوسط منصة عالية لتنفيذ الحكم عليها حتى يشهده كل الحاضرين . 

وفي الطرف الخالي من الميدان والذي أحاطته قوات الأمن لتوفير ممرٍ لعبور الحاكم حين قدومه أو مغادرته ، ظهر الحراس وهم ينهالون ضرباً على المستشارين المعزولين لإجبارهما على قطع المسافة حتى منصة تنفيذ الحكم زحفاً . وقد تفنن الحراس في إيهام كلا المستشارين بتخفيف العذاب عمن يصل منهما زحفاً للمنصة قبل الآخر . 

وشهد الميدان سباقاً غريباً ، يزحف فيه رجلان كانا منذ أيام رمزان من رموز الدولة ، بينما تنهال على ظهريهما السياط لتحفيزهما على بذل المزيد من الجهد . 

وهللت الجماهير لتلك المباراة المثيرة التي لم تكن في الحسبان . وبدا للوهلة الأولى أن مستشار الفكر هو الأقدر على الفوز ، ولكن بعد لحظات بدأ يركبه الوهن وبدأ مستشار الأمن يقترب منه بل ويتقدم عليه . 

واشتعل صياح الجماهير وازداد حماسها لمتابعة السباق الفريد . وكان كلما تقدم مستشار الأمن يكثف الحراس ضرب السياط عليه ، حتى أخذ الرجل يجأر كالمصروع وينتفض على الأرض أثناء زحفه بينما تقاطعت بجسده الجراح . وانتهز مستشار الفكر الفرصة وشد من عزمه لمواصلة الزحف حتى اقترب من رفيقه ، فأخذ الحراس يركزون عليه هو الآخر الضرب ، فبدا كمن أصابته لوثة حيث صار يصيح طالباً المزيد ، وكلما ازدادوا ضرباً كلما طلب المزيد ، واستمر في تقدمه حتى وصل أخيراً إلى أسفل المنصة . 

واهتزت أرض الميدان الواسع من شدة صياح الجماهير وحماسها ، وسارع الحراس بحمل مستشار الفكر الفائز وأعلنوا في تشفي بأنه مادام هو الأكثر عزما فسيناله إذن القدر الأكبر من العذاب حتى الموت . 

وتم تقييد الرجلين استعداداً لبدء تنفيذ الحكم ، ولكن بدأ يتردد وسط همهمات الجماهير صوت هتاف غير واضح المقاطع ، صادر من أحد التجمعات بالحشد الغفير ، ثم مالبث أن بدأ يتضح مع استمرار هدوء وإنصات الجماهير ، ولم يكن إلا صوت صياح وهتاف الصالحين ، ومن انضم إليهم من العباد . وأخذوا يهتفون :

.. هي كانت عزبة أبوك ..

.. هي كانت عزبة أبوك ... 

وتقلقل الجمع الغفير ، وسيطرت على الجموع حالة من الوجوم ، و لكن ظل الهتاف يتردد . وبدأ بعض العباد ينضمون إلى الهتاف مع الصالحين . وأصبح الهتاف يتردد من أنحاء متفرقة بالميدان الفسيح ، وهنا بدأت تسري حالة استنفار مضطربة وسط قوات الأمن المحيطة بالميدان ، وتحركت الوحدات الثقيلة وأغلقت الطرف الخالي من الميدان ، حتى تم إحكام الحصار حول الجماهير . 

ولكن الهتاف مالبث يتعالى ويتضخم ، وبدأ الجمع الغفير يتقدم للأمام نحو القوات المُحاصِرة ، فاتخذت القوات وضع الاستعداد وتأهبت للهجوم ، ولكن استمرت الجموع في التقدم يسبقها هتافها . وأصبح الاشتباك محتوماً بعد عدة خطوات ، ولكن .. وللغرابة .. فاجأت قوات الأمن الجموع المتقدمة بالتقهقر ، فاشتعلت حماسة الجماهير وتجرأ منها من ظل صامتاً وبدأ في الهتاف . 

واستمرت قوات الأمن في تراجعها والجماهير في تقدمها ، وبدت قوات الأمن في تقهقرها السريع كأنها تنسحب ثم بات الأمر يأخذ شكل الفرار . وماهي إلا لحظات حتى ضج الميدان بصوت أزيز جامح ، وانشقت السماء عن سرب كبير من المقاتلات الطائرة ، فارتفعت وجوه الجماهير تلقائياً لتتابع حركتها الخاطفة ، وإذا بالقذائف الثقيلة تنهمر من تلك المقاتلات الطائرة ، وأدرك العباد وقتها لماذا فرت قوات الأمن ، فانطلقوا هاربين في كل صوب واتجاه ، ولكن القذائف لم تتح لهم الاستمرار ، فقد تتابعت انفجاراتها وتطايرت الأشلاء مع الجثت مع حطام الميدان .. وظلت المقاتلات تقصف الميدان حتى تحول إلى حفرة عميقة مظلمة تغلي وتفور وتتلظى بأجساد العباد وحطام الجماد .

* * * *

حالفني الحظ أنا ونورجان ، لأننا كنا مازلنا في الطريق إلى الميدان الفسيح عندما بدأ القصف . ولقد اهتز الطريق بنا ودهمتنا أصوات الانفجارات ، وبدا لنا الميدان كأنه اقتُلع من جذوره وتحول إلى حطام تناثر في السماء . فولينا الأدبار سريعاً خوفاً من امتداد القصف إلى الطريق الذي نسلكه ، قاصدين الحي الذي أقطنه في الطرف الآخر من المدينة . 

ولكننا ما إن وصلنا إلى مشارف الحي إلا وشاهدنا جمعاً كبيراً من العباد يسد الطريق ، فاخترقنا الجمع لنستطلع الأمر ، فإذا بقوات حاشدة من رجال الأمن تملأ جنبات الحى . وتناهى إلى سمعنا من أحاديث الواقفين بأن قوات الأمن تبحث عن دخيل من عالم الإنس تمكن من النفاذ إلى عالم الجن بمساعدة إحدى الفتيات . وما إن سمعنا بذلك حتى بدأنا في التملص والتراجع بهدوء من وسط العباد المحتشدة إلى أن تمكنا من الخروج إلى الطريق . 

وبدا على نورجان الذهول والارتباك وظلت تردد : هل يمكن أن تكون قالت له ؟ .. وعندما استفسرت منها عما تقصده ، انهارت واعترفت لي بأنها أفشت سر علاقتنا لصديقتها التي تجمعها علاقة بأحد رجال جهاز الأمن الخاص بالحاكم . وأخذت تقسم لي باكية بأنها ما كانت لتبوح لها بسر علاقتنا لو داخلها الشك للحظة واحدة بأنها يمكن أن تكشف لصديقها هذا السر ، فما المصلحة التي تعود عليها من ذلك ! وما الذي يعني جهاز الأمن في نفاذ أحد من الإنس إلى عالم الجن ؟ .. وتلاقت نظراتي بها ، وبدت محاولة البحث عن إجابات لتساؤلاتها ترفاً لا مجال له في هذا الوقت الحرج . 

وسرعان ما انطلقنا على غير هدى إلى أطراف المدينة ، فمنزل نورجان لن يصبح مكاناً آمناً ، فلابد أنهم توصلوا إليه . ولم يكن أمامنا مكان أخر نلجأ إليه . كما أننا لن نستطيع الخروج من المدينة لأن كافة المنافذ مُراقبة . فقصدنا أطراف المدينة ومنها توغلنا إلى المناطق الوعرة المحيطة ، وواصلنا المسير حتى اعترانا الوهن والتعب ، فجلسنا برهة لنستريح ، وزاد اطمئناننا عندما مر الوقت ولم نجد أحداً في أثرنا ، واستغرقتنا من شدة التعب إغفاءة قصيرة ، سرعان ما استيقظنا منها على صوت حركة مفاجئة ، وإذا بهم حولنا في كل مكان . ولكنهم لم يكونوا من رجال الأمن ، لا في المظهر والهيئة ولا في الزي . 

ولقد استفسروا منا في خشونة عن سبب تواجدنا في هذه البقعة ، فأجابت عليهم نورجان بأننا هربنا من القصف واعترانا الرعب فظللنا نجري حتى وصلنا إلى هذه البقعة . ولكن لم يبدو عليهم التصديق ، لاعتقادهم بأننا مدسوسون عليهم من جهاز الأمن ، ولذلك شرعوا في تقييدنا ، واقتادونا إلى داخل معسكرهم الرابض في ثنايا تلك المناطق الوعرة ... وآنذاك أيقنا بأننا لم نقع إلا في أيدي ................ " الجائرين " .


على هامش الأحوال


احتجزنا الجائرون . ولما مر يوم ولم يجدوا أحداً في أثرنا ، اطمأنوا إلى أننا لسنا من أعوان أجهزة الأمن ، ولكنهم داوموا على احتجازنا ريثما يقرروا ماهم بنا فاعلون . وفي حجز الجائرين كان لنا رفيق محتجز هو الآخر ولكن منذ فترة سابقة . وبحواري معه علمت أنه من جماعة الجائرين ، ولكنهم انقلبوا عليه لتأليفه كتاباً يتناقض مع أفكارهم تحت عنوان " الإطاحة بالسلطة .. ثورة شعبية لا مؤامرة انقلابية " . وبامتداد الحوار بيننا أوضح لي بأن الكتاب الذي ألفه يمثل مزيجاً من التجربة الذاتية والرؤية التحليلية للواقع المحيط ، وأخذ يسرد لي كيف بدأ يكتشف في مقتبل شبابه تردي الأحوال بالبلد ، وسيادة القهر وشيوع الفساد ، ومواجهته لكل ذلك بغضب مكبوت يضطرم بداخله ، حتى وصل إلى مرحلة من الغضب كان لابد فيها من الانفجار في وجه كل هذا الكم من السواد . 

لذلك انضم لجماعة الجائرين لاقتناعه آنذاك بأن مواجهة هذا الواقع العفن لن تكون أبداً بالكلمات ، وإنما السبيل الوحيد هو انتهاج أسلوب اللكمات واللطمات والركلات . واشترك مع الجائرين في عدة هجمات مسلحة على بعض الشخصيات السياسية وبعض المنشآت الحكومية الهامة . ولكنه تزلزل من داخله عندما اكتشف عقب تلك الهجمات ، سقوط ضحايا من الأبرياء ، الذين لا ذنب لهم إلا التواجد في موقع العمليات أثناء تنفيذها . 

لذلك بدأ في مراجعة مشروعية أسلوب النضال المسلح في مواجهة السلطة الباغية . وفي البداية وجد أنه لا بديل عن ذلك لإقصاء سلطة لاتتورع عن اقتراف كافة الآثام من أجل ضمان استمرارها على مقاعد الحكم . 

ولكن باستمرار إعماله لفكره ، تلاحظ له بأن النضال المسلح في حد ذاته يحوِّل الجماعة المناضلة ضد السلطة ، من جماعة مدنية متمردة إلى جماعة عسكرية ، تكتسب كافة مساوىء النظم العسكرية ، المتمثلة في تقديس الرأي الواحد وعدم الاعتراف بالحوار والتشاور كأسلوب للقيادة والإدارة ، والشدة والقسوة في التعامل مع الأعداء ــ فالعسكريون إما يقتلون أعداءهم أو يأسرونهم ــ مما يحوِّل قضية إقصاء السلطة الباغية بمرور الوقت في مخيلة الجماعات المتعسكرة إلى هدف في حد ذاته وليس وسيلة لتحقيق العدل والخير . 

وبالتالي تبين له أن نجاح أية جماعة مسلحة في الوصول إلى السلطة لن يأتي بجديد . فالوارث لن يكون خيراً من المورث ، مما يؤدي إلى إدارة الدولة في ظل حكم تلك الجماعات بأسلوب الحرب والقتال . حيث يصبح القتل أو السجن هما الطريقة المعتادة للتعامل مع المعارضين السياسيين ، ويصبح القرار الأوحد للحاكم هو النظام المثالي لتحقيق الضبط والربط على المدنيين العزل ، وذلك باستعمال كافة وسائل القمع والقسوة لفرض هذا القرار . 

وبوصوله لهذه النتيجة تأكد له عدم صلاحية الجماعات المسلحة لتولي مقاليد الحكم بعد إقصائها للسلطة ، وإنما ينبغي عليها أن تتنازل عنها طواعية لحكومة مدنية تلتزم أمامها بتحقيق كافة الإصلاحات السياسية والاجتماعية . ولكن نظراً لاستحالة تحقق ذلك إلا على أيدي جماعة من الملائكة ، فبالتالي يصبح الوصول للسلطة من خلال النضال المسلح أمراً غير مشروع ــ ليس في مواجهة السلطة الباغية ــ ولكن في مواجهة الشعب نفسه .

ولقد تابع لي بأنه عقب توصله لتلك الحقيقة الهامة ، شرع في استبصار وتقييم الواقع حوله من خلال وجهة نظر المعايير التنظيمية البحتة . فوجد بأن الجيش أصبح يشكل دولة داخل الدولة ، من خلال استمرار السلطة في تدعيم ميزانيته الضخمة لكفالة الأجور المرتفعة والمزايا العينية والترفيهية لضباطه وأفراده ، ومن خلال توالي خروج الحكام من بين صفوفه . بحيث أصبح الجيش هو الذي يحكم وهو الذي يكفل حماية الحكم من أية حركة انقلابية أو حتى انتفاضة شعبية . وبالتالي أصبح هناك ترابط عضوى بين الجيش كمؤسسة وبين النظام القائم كسلطة . وهذا الترابط لا يمكن فصمه بأيه حركة انقلابية ، لأنها ستُواجه بجيش كامل يتصدى لها وعلى أهبة الاستعداد للقضاء عليها قضاءً مبرماً بلا أدنى رحمة . وأية محاولة لاختراق صفوف الجيش من خلال استقطاب بعض قواده أو ضباطه محكوم عليها بالفشل ، لأن هؤلاء القادة والضباط أصبحوا يباركون هذا النظام الذي يغدق عليهم الكثير ، ولديهم الاستعداد لسحق كل من تسول له نفسه محاولة تهديد بقائه أو استمراره . 

كما أن أية محاولة للاستيلاء على إحدى المحافظات الحدودية واستخدامها كرأس حربة ومركز قيادة لإدارة النضال المسلح ، هي محاولة سيُكتب لها الفشل . فلقد درج النظام الحاكم على تسليم زمام حكم تلك المحافظات لقيادات عسكرية مرموقة ، تعلم علم اليقين بأن أولى واجباتها هي مواجهة ووأد أقل حركة انقلابية تبغي الاستيلاء على المحافظة . كما درج النظام الحاكم أيضاً على تسليم زمام حكم المحافظات التي تكثر بها تنظيمات الجائرين لقيادات أمنية بارزة ، أولى واجباتها هي ملاحقة هذه التنظيمات للقضاء عليها قضاءً تاماً .

وهكذا تتضاءل كثيراً الفرص أمام أية جماعة مسلحة للإطاحة بالسلطة ، في مواجهة الانحياز المطلق من الجيش للنظام القائم ، وفي ظل السيطرة العسكرية الكاملة على المحافظات الحدودية . وفي إطار كل ذلك تفقد أية جماعة مسلحة القوة المحركة للنضال بالإضافة إلى الأرض التي تتحرك عليها . وتصبح حينئذ الإطاحة بالسلطة من خلال التمرد المسلح مغامرة غير واقعية ومحفوفة بالمخاطر والأهوال ، وذلك وفقاً للمبادىء والمعايير التنظيمية المجردة .

لذا .. فإن السبيل الوحيد للإطاحة بالسلطة يتمثل في قيادة زمام المبادرة للثورة الشعبية ، من خلال الالتحام الدءوب والمستمر بكافة التنظيمات الشعبية والأهلية والخيرية ، بالإضافة إلى النقابات والجامعات والمدارس والأندية ودور العبادة ، ومداومة نشر الدعوة للثورة وسط صفوف تلك التجمعات إلى أن تندلع من رحم الغيب ، ولكنها دائما ما تكون آتية لامحالة . فكل نظام باغٍ يحمل بداخله جرثومة فنائه من خلال عدم استبصاره لفيضان طغيانه وفساده ، وعدم تصديقه لترعرع بذور التمرد داخل نفوس رعاياه ، إلى أن تنفجر الثورة فجأة لتزيل العهد القديم من جذوره وتهيىء التربة للعهد الجديد بكافة آماله وتطلعاته . ولئن بدت أية ثورة شعبية في بدايتها كانتفاضة فوضوية ، مما يدعو بعض الشياطين إلى الانخراط ضمن صفوفها للقفز من خلالها مرة أخرى إلى مقاعد السلطة . إلا أن مسئولية الشعب عن الثورة ويقظة روحه الوطنية للدفاع عن حقوقه ، سرعان ما تجعله يقف بالمرصاد لمواجهة أية ردة للوراء . وبذلك تلتزم أية سلطة تأتي في عقب ثورة شعبية بالتعبير عن آمال الشعب وطموحاته ، إن لم يكن حباً في الشعب فخوفاً من غضبته وثورته .

وفي نهاية حوارنا .. أخبرني بأنه دعا الجائرين في نهاية كتابه إلى التخلي عن فكرة الانقلاب المسلح للإطاحة بالسلطة ، والإيمان بفكرة الثورة الشعبية كمخرج وأمل وحيد باقٍ لإقصاء السلطة الباغية .

... عندما خلوت لنفسي بعد نهاية حواري مع رفيق الحجز ، اتضح لي لماذا إذن احتجزه الجائرون . فكتابه ذلك يمثل تفريغاً مريعاً لنظريتهم في النضال ضد السلطة ولكافة أساليبهم التنظيمية للإطاحة بها ، وبالتالي كان لابد من إسكات صوته . 

ولقد أشفقت عليه لأنني أيقنت أنهم قاتلوه لا محالة ، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد . 

ولكن .. تُرى هل سيرى كتابه النور يوماً ما ؟ وهل ستعرف أجيال قادمة معني حيرته العقلية ؟ .. يبدو أن تساؤلاتي ستظل بلا إجابة ، فما معنى النور في هذه الظلمة الحالكة ... وأين هي الأجيال القادمة والعباد لايملكون حتى اللحظة الحالية ... وأنا ونورجان ماذا تخبىء لنا اللحظة القادمة ؟ ... وما نجونا من الشياطين إلا لنقع في أيدي الجائرين .... 

ولكن لماذا هذا اليأس ؟ لقد استمرت الحياة منذ آلاف السنين رغم كل شرور العالم ، ولم تقف للحظة واحدة ، لا لفرح أو لحزن ، وما ظنه العباد خالداً أصبح بمرور الزمن هشيماً تذروه الرياح . فمتى إذن يذهب الزبد جفاءً . ومتى يمكث ما ينفع العباد في الأرض .. متى .. متى ؟

* * *


(( ..... ومنا دون ذلك ..... ))

سورة الجن ــ الآية ١١ 


السناكيح


هم الذين سقطوا من قعر القفة ، فلا سعر ولا وزن لهم . ورغم كونهم الأغلبية والأكثرية ، إلا أنهم الأغلبية الفقيرة المريضة الجاهلة ، والأكثرية المغلوبة على أمرها ، المنقادة خلف أقدارها . 

فمنذ فجر التاريخ وهم يدورون في الساقية الجهنمية معصوبو الأعين . فشيدوا المقابر والمعابد والقصور الفارهة للحكام الآلهة ، بينما عاشوا هم في الأكواخ والجحور . وزرعوا وحصدوا ملايين المحاصيل والأفدنة لموجات الغزاة المتلاحقة ، بينما اقتاتوا هم على الفتات والقشور . 

ولأنهم بعدما تخلصوا من الغزاة الأجانب فتحوا أحضانهم للغزاة الوطنيين ، فقد حق عليهم القول بأن يظلوا إلى الآن يبلعون الحصرم ويسكنون القبور .

وهم غارقون في القهر حتى آذانهم . فكما يتجرعونه على أيدي حكامهم ، فإنهم أيضا يسقونه لبعضهم البعض كترياق مر ، كأنما يحصنهم ضد مرارات حياتهم البائسة . فتراهم كلهم جبابرة على بعضهم ، سواء في علاقاتهم الأسرية أو الزوجية أو الاجتماعية أو الوظيفية أو التجارية أو حتى العاطفية . ولاجدوى من حلمهم الدائم بالحرية ، طالما فقدوا القدرة على ممارستها وتطبيقها ولو حتى على ذواتهم .

ولعل الفضيلة كالحرية تمثل مأزقاً خطيراً في حياتهم . فهم يرفعون رايات الفضيلة وشعاراتها ، ويهتفون بمبادئها وقيمها ، بينما تتلوى أجسادهم مع بعضهم البعض بنيران الرغبة المحرمة خلف الأبواب والحجب والأستار ، وتقترف أياديهم وألسنتهم أفظع الآثام في أوكار الخفاء . وهذا التناقض يفرض نفسه حتى على إيمانهم ، لأنهم صاروا يعبدون الله بما لم يطالبهم به ، بينما يكدسون ما طالبهم به في الحجرات الخلفية لقلوبهم وعقولهم ، حتى نسوا ماذُكَّروا به ، فحبطت أعمالهم .

ولقد كان الجنس دائماً هو لذتهم الوحيدة الموهوبة لهم بلا ثمن . ولا يعنيهم إن انقذفت في الكفوف أو الفروج أو الأدبار . فبقدر ما ضعضع البؤس ثقتهم في أنفسهم حتى باتوا لايصدقون بأن النشوة يمكن أن تترعرع بين أحضانهم ، بقدر ما صاروا يتعجلون قطف ثمار الرغبة حتى أصبحت بلا بريق أو وهج . لذلك انزلقوا في مهاوي الكيف والسُطَل عسى يمنحهم الوهم ماسلبهم الواقع من أحلامهم . وصار التناسل هو إنجازهم الوحيد ، وهيكلهم الشامخ في وجه الزمن العنيد ، لتخليد ذكراهم وأسمائهم وأنسابهم ، طمعاً في أن يعوضوا بالذرية مالم يسعفهم به زمانهم ، ولكن دائماً ما أثبتت الأيام لهم ، أن الجنس مثلما كان هو داءَهم ، فإن الذرية كانت هي عقابهم .

إنهم السناكيح في نظر الشياطين . المستضعفون الغافلون في عرف الصالحين ، الضالون الجاهليون في رأي الجائرين ...

ولكنهم كانوا ذلك أم كذلك ، فهم دائما المنتصرون رغم عجزهم . فقد انتصروا بمرور الزمن فقط على كل أعدائهم ، لأنهم اعتنقوا الحكمة الأزلية في الإيمان بالموت كسلاح لحل كافة أزماتهم . فقد كان لهم الرحمة عندما استطالت عذاباتهم ، بينما كان النقمة على كل من استعبدهم وأذل أعناقهم .

ولأنهم تعودوا دائما أن يتجاهلوا النظر في مرآة أحوالهم . تجدهم يبغضون من يذكرهم بخضوعهم وضعفهم ، ويعشقون من يزيف لهم سلبيتهم وفشلهم . ولذلك كم لعنوا من كانوا يستوجبون التكريم ، ورفعوا من كانوا يستحقون التنكيل .

ولعل المتبصر في شئونهم يتعجب من كونهم ضحايا جلادين ، فرائس وصيادين ، أبرياء ومتهمين . فلقد جمعوا كل الأضداد ، ومارسوا كافة المتناقضات . ولئن لم يرسوا على شاطئ يودعون بعده تيههم وضياعهم . فإنهم سيصبحون الذين يعبدون الله على حرف ، فإن أصابهم خير اطمأنوا به ، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم ، فخسروا الدنيا وخسروا الآخرة . خسروا الدنيا والآخرة . وذلك هو الخسران المبين .

* * * *


آخر الأحوال


لبثنا في حجز الجائرين يومين . وفي صباح اليوم الثالث اكتشفنا غياب رفيقنا في الحبس . وعلمنا بأنهم قتلوه عقاباً على فكره المناهض لأفكارهم . 

وتملكنا الرعب أنا ونورجان ، فإذا سولت لهم أنفسهم قتل واحد منهم ، فماذا سيفعلون بنا ؟ 

وتزايد رعبنا أكثر عندما تناهى إلى سمعنا ما نقله لهم مندوبهم الذي يزودهم بالغذاء من المدينة ، من أن قوات الأمن تبحث بشراسة عن رجل وامرأة هاربين لعلاقتهما بالصوت وسرقة صولجان الحاكم ، وأن ثمة أقاويل كثيرة تؤكد بأن الرجل من الإنس . لذلك نصحهم بضرورة الرحيل من هذه البقعة لوقوعها آجلاً أم عاجلاً في دائرة تحركات الحملات التفتيشية لقوات الأمن .

وبمجرد رحيله هرعوا إلى بعضهم البعض ليتشاوروا فيما سيفعلون بنا . فثمة من اقترح احتفاظهم بنا كرهينة يمكن مساومة الحاكم بها لتخفيف الملاحقة الأمنية لجماعتهم . ومن اقترح ضرورة التوصل إلى سر الصوت ومكان الصولجان من ذلك الإنسي المزعوم ، وتسخير قدراتهما للإطاحة بالحاكم . 

ولكن لم يستمر جدلهم طويلاً ، ففجأة بدأت أصوات بعض الانفجارات حول المكان ، وسرعان ماعمت الفوضى وبدأت القذائف تنهمر على كل شبر . وبدا الأمر وكأنه حرب إبادة للقضاء على كافة الهاربين بهذا الوكر . وماهي إلا لحظات حتى توقف القصف بعد أن سقط كافة الجائرين صرعى . 

وعمت المكان حركة نشيطة فوجئنا بعدها بعدد من رجال الأمن يقتحمون الوكر ، وكانت مفاجأة لهم أن يعثروا على رجل وامرأة مقيدين بالداخل . فألقوا القبض علينا واقتادونا إلى قائدهم الذي ما إن رآنا حتى بدت عليه علامات الذهول وعدم التصديق . فاقترب من نورجان ليتحقق من أوصافها ، واقترب مني بحذر يقرُب إلى الخوف وأخذ يدقق في ملامحي . ثم صاح في رجاله بأن يشهروا أسلحتهم ويضربوا حولنا سياجاً أمنياً بأجسادهم ، فقد وقع الصيد الثمين الذي ينتظره الحاكم بفروغ صبر . 

وعلى الفور قام بتكليف عفريتٍ بالطيران ليأتيه على وجه السرعة بمدد إضافي من القوات ، لتأمين عملية نقلنا من هذه البقعة مروراً بالمدينة وحتى قصر الحكم ، وأيضاً لإبلاغ الحاكم بنبأ القبض على الإنسي الدخيل .

وما هي إلا دقائق حتى وصل المدد وامتلأت البقعة بعدد كبير من القوات وبدأت مسيرة التحرك نحو المدينة . حيث سرنا أنا ونورجان مكبلين بالأصفاد وحولنا حلقة من الحراس الأشداء شاهرين أسلحتهم نحونا ، بينما توزعت باقي القوات لتحيط بتلك الحلقة من كافة الجهات ، في حين تولى العفاريت الطيارون حراسة الموكب من الجو .

اخترق الموكب المنطقة الوعرة غير المأهولة . وبدت المدينة من بعيد مقطبة شاحبة تعلوها غبرة . وانتابتني غمامة من الذهول والإحباط ، ووجدتني أغوص في هوة سحيقة من الندم والخسارة .. فمالي وهذا العالم البائس بهؤلاء المسحوقين و أولئك الجبابرة ... ولماذا تركت عالمي لأتورط في مصيدة ربما أدفع حياتي لها ثمناً .. وحانت مني التفاتة نحو نورجان التي اعتراها الوهن وامتلكها الضياع حتى تبدلت من حال إلى حال آخر ، بعدما غادرتها السكينة وتحجر بداخل وجهها الجمال ... 

وراح الحراس من حولنا يتجاذبون أطراف الحديث قطعاً للمسافة ، فقال أحدهم : إن البلد أصبح في وضع خطير ، والأحوال تسوء يوما بعد آخر ، ولا يمر يوم حتى تندلع المظاهرات يقودها الصالحون وخلفهم الآلاف من السناكيح ، ورغم أن الجيش يواجه المتظاهرين بلا رحمة إلا أن المظاهرات مازالت تندلع ، حتى بات عدد القتلى إلى الآن يقارب المليون نفس . 

وأضاف آخر هامساً : أن جده صرح له بأن البلاد لم تشهد مثل هذه الأحداث إلا في ظل عهد الملكية إبان الاحتلال ، حيث كان الشعب وقتها بكافة طوائفه يمتلك حساً وطنياً عالياً ووعياً سياسياً عميقاً ، وكانت المظاهرات الطلابية والعمالية والنقابية والحزبية والنسائية تجوب البلاد لمواجهة نير الاحتلال ، ولكن تبدلت الأحوال بعد قيام الجمهورية ، فراح الشعب في سبات عميق ، وانذهل العباد في الجري وراء لقمة العيش . 

وقال ثالث : إن الجيش تولى مهمة ضرب الشعب ، بينما تولينا نحن مهمة إبادة الجائرين ، ولا أحد يدري على أي شكل ستكون النهاية ..........

ووصل الموكب إلى مدخل المدينة . وبدأنا في اختراق شوارعها وضواحيها . 

كانت الطرق خالية تماماً من العباد وتتوزع على مفارقها ومداخلها وحدات الجيش بأسلحتها الثقيلة . بينما سُدت شوارع أخرى تماماً أثر انهيار منازلها وتراكم حطامها . وبدا كأن المدينة تعرضت لحرب وحشية ، فالجثث كانت متناثرة في بعض الأركان والزوايا ، بينما اختلطت في الجو رائحة الموت برائحة الغبار .

ولاح لنا قصر الحاكم . مهولاً فارهاً ينتصب قاطعاً الفراغ من حوله ، وتحاصره قوات حاشدة من الجيش بأسلحتها ومعداتها الثقيلة . 

واخترق الموكب الخطوط الأمنية المتتالية حتى وصلنا إلى مدخل القصر . وظهر حراس أشداء قاموا بتسلمنا من القوة المرافقة ، واقتادونا في ممرات طويلة متتالية كأنها بلا نهاية ، حتى وصلنا فجأة إلى فتحة ضيقة ، ما إن نفذنا منها ، حتى ظهر لنا بهو شاسع الاتساع شاهق الارتفاع ، وفي آخره ينتصب عرش عالٍ ينبعث منه وهج وبريق يخطفان الأبصار ويغشيانها حتى لا يكاد يظهر ما بداخله ، وتعلوه لوحة ضخمة مكتوب فيها بحروف مشعة :

" الحكام ....... مُلْهَمون " 

وطرحنا الحراس على أرض البهو ، وإذا بصياح يتجلجل مخلفاً صدى عجيباً في الأركان :

ائتوني به .. أعذبه بنفسي .

كان صوته .. نفس الصوت الذي سمعته بدار العبادة ، ولم تتح لى رؤية صاحبه يوم طردوني إلى الميدان الفسيح عارياً . 

وعلى الفور قام الحراس بجذبنا جراً حتى أصبحنا أسفل العرش . ورفعت وجهي فغشيني الوهج المبهر ، وبدا لى في وسطه خيال لجسد ، سرعان ما بدأ يتضح لي عندما تعودت عيناي على الضوء . 

كان جالساً على العرش . وتسمرت عيناي بوجهه . ولكن .. لكن .. لكنني أعرف هذا الشر .. وأعرف هذا الجبروت .. أعرفه وإن اختلفت السحنة وتباينت الملامح وتبدلت العوالم وتغير الخلق .. إنه هو .. أو كأنه هو .. هو .. أعرفه بذاكرتي البشرية التي عاودتني فجأة .. وذكرتني في لمحة واحدة .. بكل هذا الذي تركته في عالمي هناك .. وغفلت عنه هناك .. بكل هذا الذي عاينته هناك وقهرني هناك .. وكيف الآن .. والآن فقط ودفعة واحدة .. أُدرك كل ما غفلت عنه هناك طوال العمر .. وكأن تعايشنا مع الشر يجعلنا نألفه ، رغم كراهيتنا له .

وانتصبت قائماً .. ووجدتني أرددها لمن هو هنا .. ولمن هو في عالمي هناك .. لمن أقف تحت عرشه هنا .. ولمن سأقف تحت عرشه هناك .. وجأرت بكل كياني .. وبدا صوتي كأنما يتردد هنا و هناك ..

" هي .. كانت .. عزبة .. أبوك "

*****

دكتور / محمد محفوظ